داود النبي والمزامير

13/06/2015 23:38

داود النبي والمزامير

 

داود  أولاً: الاسم: داود اسم عبري معناه "المحبوب" (1مل 3: 14؛ 11: 4و36؛ حز 34: 23) ولعلها اختصار "دوداياهو" أي "المحبوب من يهو" (2أخ 20: 37) أو "دودو" (2صم 23: 24) أي "محبوب". وقد ورد اسم "دودو في ألواح تل العمارنة. ولم يطلق اسم "داود على أي شخص في العهد القديم إلا على "داود" ملك إسرائيل العظيم. ثانياً - النسب: كان داود أحد أبناء يسى البيتلحمي، وأصغر ثمانية من الأخوة (1صم 16: 1 و10و 11و 13، 1صم 17: 12). ويذكر نسبه في سفر راعوث إلى عشرة أجيال سابقة فهو ابن يسَّى بن عوبيد بين بووعز بن سلمون بن نحشون بن عميناداب، بن رام بن حصرون بن فارص بن يهوذا (راعوث 4: 18-22) وفارص هو ابن يهوذا من ثامار (تك 38: 1-30). وكان داود أصغر الأخوة الثمانية، ولكن في سجل سبط يهوذا في سفر الأخبار لا يذكر سوى أسماء سبعة فقط من أبناء يسى بما فيهم داود، ولعل ذلك راجع إلى أن أحد الأبناء كان قد مات دون أن يخلف نسلاً (1أخ 2: 13-15). وتتضمن سلسلة النسب "نحشون رئيس بيت يهوذا" (عد 2: 3؛ 1أخ 2: 10) وأخا "ألييشابع زوجة هرون أخي موسى" (خر 16: 23). وراعوث الموآبية - زوجة بوعز - هي جدته الكبرى، وبذلك كان يسري دم أجنبي في عروق داود. ولسنا نعرف شيئاً عن والدة داود. أما القول: "عبدك ... وابن أمتك" (مز 86: 16؛ 116: 16) فليس دليلاً أكيداً على تقواها.  ربما كانت أم داود زوجة أو سرية لناحاش ثم تزوجت من يسى، فهذا يتفق - حسب ظنه - مع فارق العمر بين داود وأخواته. ويقول بعض المعلمين اليهود المتأخرين إنه كان ابن زنا استناداً على قوله: "بالخطية حبلت بي أمي" (مز 51: 5)، بينما نجد بين المعلمين الأوائل من يحاول اثبات أنه "حبل به بلا دنس" إذ يجعلون من "ناحاش" (الحية) اسماً ثانياً ليسّى، إذ لم تكن له خطية سوى تلك لاتي وصلت إليه من الحية القديمة، وبذلك لا يكون داود قد ورث شيئاً (انظر 2صم 17: 25). ولعلها كانت هي أيضاً موآبية - مثل راعوث - لأنه عندما هرب داود من أمام شاول إلى مغارة عدلام: "قال لملك موآب ليخرج أبي وأمي إليكم حتى أعلم ماذا يصنع لي الله، فودعهما عند ملك موآب" (1صم 22: 1-4).   ثالثاً: الفتى الراعي ببيت لحم: وفيما يتعلق بتفصيل حياة داود فإننا نعرف عنها أكثر مما نعرف عن أي شخصية أخرى في العهد القديم، كما لدينا الكثير من الكتابات عنه، ومن نتاجه الشخصي أيضاً، فإذا قرأناها معاً، يمكننا أن نعيد تركيب سيرة حياته كاملة. ويظهر لنا داود في صور متنوعة، فيظهر كراع، وموسيقى، وجندي، وملك وشاعر، وأصبح في نظر الأنبياء المتأخرين المثل الأعلى للأمة (إرميا 23: 15). ويمكن تقسيم حياته إلى ثلاث مراحل: الأولى كراعٍ، والثانية في المنفى مطارداً من مكان إلى مكان من شاول، والثالثة كملك لإسرائيل. ومن الواضح أن داود قد أحب بيت لحم - مسقط رأسه - فمن الأحداث المؤثرة للغاية في حياته كمحارب، أنه وهو في حرب مع الفلسطينيين، اشتاق أن يشرب ماء من بئر بيت لحم فقال: "من يسقيني ماء من بئر بيت لحم التي عند الباب؟" (2صم 23: 15؛ 1أخ 11: 17). وقد أعطى داود لكمهمام جزءاً من ميراثه في بيت لحم مكافأة له على إحسان أبيه الشيخ "برزلاي" إليه وهو هارب من أبشالوم (2صم 19: 37، 38، إر 41: 17). (1) أول ظهوره: أول مرة يظهر فيها اسم داود في الكتاب المقدس، ترتبط بعيد سنوي في بيت لحم حين قدم صموئيل النبي عجلة للذبيحة، ويمكن تفسير الغموض الظاهر الذي أحاط بموقف صموئيل (1صم 16: 2، 3) بأن نفترض - مع دافيدسون - أن هدف المؤرخ كان إظهار كيف وجه الله التاريخ، لا ليذكر كيف فكر البشر أو تصرفوا. ويبد أن يسى - شيخ القرية - كان رئيساً للحفل (1صم 20: 6). وذبح صموئيل عجلة البقر وأعد كل شيء للاحتفال، وهنا أعلن صموئيل الغرض من مجيئه إلى بيت لحم. فمر كل أخوة داود الكبار أولاً، ولكن الاختيار وقع على داود، فمسحه صموئيل ملكاً ليحل محل شاول. وكان داود "أشقر مع حلاوة العينين وحسن المنظر" (1صم 16: 12)، كما كان "جبار بأس ورجل حرب وفصيح" سريع العدو (1صم 16: 12 - 18؛ 7: 42). ولا ريب في أن اختيار صموئيل له كان له أثر بالغ في حياته بعد ذلك. إلا أن مسح صموئيل له لم يستلزم أن يهجر عمله كراعي غنم على الفور. وكانت المراعي المحيطة ببيت لحم مشهورة في الأزمنة القديمة - كما هي الآن، فهناك "مجدل عدر" أو "برج القطيع" (تك 35: 21؛ انظر مي 4: 8). كما ظهر ملاك الرب للرعاة "وهم يحرسون حراسات الليل على رعيتهم" (لو 2: 8). وكان داود الراعي يحمل معه مقلاعاً وعصا (1صم 17: 40، 43) وكنف الرعاة أي جراباً حول عنقه ليحمل فيه أي شيء يلزمه كراع (1صم 17: 40). وزاول خلال الساعات الطويلة في رعاية القطيع، الرمي بالمقلاع حتى يرع في إصابة الهدف، كما عمل على تنمية موهبته الموسيقية بالعزف على القيثارة أو العود أو الربابة البدائية - مثلما يعزف الراعي البدوي اليوم - وكانت الربابة آلة من وتر واحد في الغالب، وقلما تحتوي على أكثر من وترين، وكان يضرب عليها بيده (1صم 16: 23) أو ربما باستخدام ريشة. ويصف يوسيفوس عبقرية داود في صنع الآلات الموسيقية قائلاً: "كان يصنع الآلات الموسيقية ويعلِّم اللاويين ترتيل الأناشيد لله. وكان الكمان آلة ذات عشرة أوتار يعزف عليها بالقوس. وكان للمزمار اثنتا عشرة نغمة موسيقية وكان يعزف عليه بالأصابع. أما الصنوج فكانت آلات موسيقية نحاسية عريضة وكبيرة. وقد ألمح عاموس النبي - منذ قرون طويلة - إلى مهارة داود في ابتكار الآلات الموسيقية: "الهاذرون مع صوت الرباب، المخترعون لأنفسهم آلات الغناء كداود" (عا 6: 5). وفي الواقع كان داود هو "أرفيوس" (Orpheus) العبراني "الذي كانت تردد الطيور والجبال موسيقاه". كما كتب القصائد أيضاً مرتجلاً بلا ريب أغان دنيوية ومقدسة على حد سواء، مثلما يفعل رعاة فلسطين الذين يخافون الله (انظر 2صم 22: 1؛ 23: 1؛ 1أخ 23: 5، 6؛ أع 2: 25؛ 4: 25). ومراثيه لشاول ويوناثان (2صم 1: 19-27)، ولأبنير (2صم 3: 33، 34) - رغم إيجازها - خير شاهد على مهارته الشعرية، ويكاد يكون من المؤكد أن الكثير من المزامير الثلاثة والسبعين المنسوبة لداود، هي بالفعل من نظمه. إن قصائد الطبيعة مثل المزامير الثامن والتاسع والتاسع والعشرين، ومزمور الراعي (الثالث والعشرين) تبدو - بلا ريب - أنها نبعت من خبراته المبكرة كراع، فالراعي العظيم كان يتكلم إلى قلب راعٍ! فالطبيعة عند داود كانت طبيعة معبرِّة! هكذا كانت نوعية حياتهالخارجية، كما يقول مرنم لاحق: "واختار داود عبده وأخذه من حظائر الغنم، من خلف المرضعات أتى به ليرعى يعقوب شعبه، وإسرائيل ميراثه. فرعاهم حسب كمال قلبه وبمهارة يديه هداهم" (مز 78: 70 -72)، وهكذا رفعه الله، ولم ينس هو أبداً ذلك وكيف رفعه الله من مكانته المتواضعة في رعاية الغنم (2صم 23: 1؛ مز 89: 19). (2) داود في بلاط الملك: حين كان يرعى داود غنم أبيه، دُعي لزيارة قصر الملك، ليسري بموسيقاه عن روح الملك المضطربة. وكان ذلك أول لقاء بين داود وشاول. وسارت الأمور  على ما يرام بعض الوقت. وأحب شاول داود وجعله حامل ترسه أو "ياوره الخاص". ويقول سنيكا إن فيثاغورس كان يهدئ متاعب عقله بالقيثارة. كما قال ألييشع النبي مرة: "والآن فآتوني بعواد" (2مل 3: 15). ولكن الموسيقى لا تقدر أن ترفع المتاعب الروحية إلا بصورة وقتية فحسب، ولكن باطلة هي كل العلاجات الدنيوية للنفس المثقلة بالخطية. (3) داود وجليات:  كانت زيارات داود الأولى لبلاط شاول الملك مؤقتة، فنقرأ بوضوح: "وأما داود فكان يذهب ويرجع من عند شاول ليرعى غنم أبيه في بيت لحم" (1صم 17: 15). ثم قامت المعركة بين إسرائيل والفلسطينيين في أفس دميم، في السهل أو عند سفوح تلال يهوذا، وعسكر جيش شاول في وادي البطم على جانب منهن والفلسطينيون على الجانب الآخر. ووقف جبار فلسطيني ضخم البنيان ومدجج بالأسلحة يتحدى الإسرائيليين المذعورين. وكان طول جليات "ست أذرع وشبر" (1صم 17: 4) أي نحو تسعة أقدام واربع بوصات (عاش في مدينة بورت آرثر في انتاريو بكندا في عام 1921 رجل هولندي بلغ طوله تسعة أقدام وخمس بوصات). ولم يجسر أحد أن يبرز له. وعندئذ ظهر داود على المسرح، إذ كان أبوه قد أرسله بعشرة أرغفة من الخبز وعشر قطع من الجبن لاخوته الثلاثة الكبار الذين كانوا مع شاول (1صم 17: 13 و17و 18). ولما  اقترب من المعسكر سمع تعييرات الجبار الفلسطيني المتكررة، كما سمع عن المكافأة التي وعد بها الملك لمن يقتل الفلسطيني، فتطوع لهذه المهمة. وكان درع شاول ثقيلاً جداً، لكن داود كان يعرف كيف يستخدم مقلاعه جيداً. والقصة معروفة فالفتى الراعي الصغير، الذي احتقره جليات، وازدرى به اخوته وسائر الإسرائيليين رجع من بطن الوادي حاملاً رأس الجبار وسيفه. وكان انتصار داود على جليات نقطة تحول في حياته. كان على أحد الجانبين عملاق ضخم ذو دروع منيعة، وعلى الجانب المقابل فتى مرهف مسلح بعصا الراعي ومقلاعه وخمسة حجارة ملس انتقاها من الوادي، ولكنه كان مملوءاً من روح الإيمان بالله. فصرع الفتى ذلك العملاق المتغطرس ووقف فوقه وقطع رأسه، ورجع حاملاً معه الغنيمة التي كان يتمناها كل إسرائيل. وكانت النتيجة هي أن دب الرعب - الذي كان قد أصاب الإسرائيليين بالشلل - في الفلسطينيين وانقلب الموقف، ومنذ ذلك اليوم فصاعداً بدأ الفلسطينيون ينظرون إلى داود باعتباره "ملك الأرض" (1صم 21: 11). إلا أن شاول تردد في إعطاء ابنته للراعي الصغير البيتلحمي، وسأل ثلاث مرات: "ابن من هذا الغلام؟" (1صم 17: 55و 56و 58). وتعجب كثيراً كيف أن الملك لم يتعرف على عازف القيثارة الأثير لديه! إلا أنه خلال الفترة الطويلة، بين زيارات داود الأولى لبلاط شاول وبين معركته مع جليات الجبار وانتصاره عليه، كان داود قد انتقل من مرحلة الصبوة إلى مرحلة الرجولة الباكرة، فقد يفسر ذلك - ولو جزئياً على الأقل - عدم تعرف شاول عليه (1صم 17: 55-58). وهذه إحدى الصعوبات العديدة التي يثيرها النقاد، ولكن نلاحظ أن سؤال شاول لم يكن منصباً على من يكون داود بل: "ابن من هذا الغلام؟" وكان يعلم أنه من بيت لحم وأنه ابن يسى (1صم 16: 18)، ولكنه كان يريد أن يعرف المزيد عن عائلة داود التي كانت ابنته ستتزوجه الآن، أو لعل شاول كان يقصد بذلك التعبير عن استصغاره لشأن داود وعائلته. وقد جلب انتصار داود البطولي على جبار جت مجداً لم يسبق له مثيل، ويمكن رؤية تحفة مايكل أنجلو الرائعة - وهي تمثال ضخم لداود - قائمة في فلورنسا، ويُروى عنه أنه قد جرى تشكيلها من قطعة من الرخام قام نحات أحمق بإتلافها باقتطاع قطعة كبيرة من جانبها، وقد ظلت على مدى قرن في فلورنسا مهملة ةكنفاية لا خير فها، إلى أن رأت عين الفنان إمكاناتها فنحت منها تمثال الغلام الراعي وهو يطلق الحجر من المقلاعن جاعلاً من الصدق الكبير بقطعة الرخام انحناءة التوازن للجسم الرشيق. ويمكن أن نتساءل عن مدى تأثير حياة الراعي في المزامير المنسوبة لداود، ومن العسير أن نشك أن تلك الحياة قد ألهمت داود ببعض الصور رائعة الجمال، فالمزومور الثالث والعشرين يبدو - على الأقل - صدى لحياة الراعي، وقد علَّمت الغنم البكماء داود أن الله هو راعيه. كما أن المزمور المائة والرابع والأربعين ينسب إلى داود عند انتصاره على جليات. كما يوجد في الترجمتين السريانية واليونانية مزمور - وضع في الترجمتين في نهاية المزامير - يلخص حياة داود المبكرة، كما يرتبط بالنزال بين داود وجليات، يقول فيه داود: 1 - لقد كنت صغيراً بين اخوتي والأصغر في بيت أبي. 2 - وكنت أتولى إطعام أغنام أبي ووجدت أسداً وذئباً فقتلتهما ومزقتهما. 3 - يداي صنعتا قيثارة وأصابعي شكلت مزماراً. 4 - ومن ذا الذي سيقولها لربي؟ هو الرب، وهو يسمع. 5 - هو أرسل ملاكه وأخذني من بين قطعان أبي، ومسحني بزيت مسحته. 6 - كان اخوتي يمتازون بالوسامة والأجسام الفارعة ولكن لم تكن مسرة الله بهم. 7 - أنا الذي ذهبت لملاقاة الفلسطيني ولعنني بأوثانه. 8 - ولكني امتشقت سيفه وفصلت رأسه وأزلت العار عن إسرائيل. وهناك صعوبة أخرى في قصة قتل داود لجليات، إذ نقرأ في سفر صموئيل الثاني: "ألحانان بن يعري أرجيم البيتلحمي قتل جليات الجتي وكانت قناة رمحه كنول النساجين" (2صم 21: 19 مع 1صم 17: 7). وقد ظهرت تفسيرات متعددة، أحدها، المارد الذي قتله داود لا يذكر اسمه عادة (1صم 17: 4؛ 21: 9)، أو أن اسم المارد الذي تحدى ألحانان قد نقل إلى المارد الذي قتله داود(كما يظن إبوالد). ويقول تفسير آخر إن "ألحانان" كان اسماً آخر لداود (كما يقول جيروم)، إلا أن أرجح الحلول هو اعتبار قصة الحانان لاحقة لقصة داود "ثم كانت أيضاً حرب في جوب مع الفلسطينيين" (2صم 21: 19). رابعاً - غيرة شاول من داود: كان شاول ذا طبيعة عنيدة، كما ظهر في إصراره على العصيان بأن عفا عنه أجاج ملك عماليق وعن خيار الغنم والبقر والثيران، رغم أمر الرب بتحريمها، وكان ذلك سبباً في القطيعة بينه وبين صموئيل (1صم 15: 9، 35)، وبسبب عصيانه المستمر رفضه الرب وندم على أنه جعله ملكاً على إسرائيل. وفي فترة لاحقة وهو في نوبة من نوبات الغيرة أمر بقتل جميع كهنة الرب في نوب (1صم 22: 17-19) ، فلم يكن يعرف معنى الطاعة للرب أبداً. وقد اكتسب شاول في حروبه شهرة ومجداً لنفسه ولشعبه، فيسجل سفر صموئيل الأول (14: 47و48) انتصار شاول على موآب وبني عمون وأدوم في الشرق والجنوب الشرقي، وعلى الفلسطينيين وعماليق في الجنوب، وعلى ملوك صوبةفيما وراء دمشق شمالاً. إلا أن الأ؛وال الداخلية لم تكن مستقرة. كما أن الحقد الذزي ملأ قلبه من نحو جاوج، كان سبب تعاسة أشد له، وقد ظهر جنونه قبل أن يصبح داود غريماً له بزمن طويل (1صم 16: 14: 23). (1) شهرة داود: إلا أن قفزة داود الفجائية إلى الشهرة بعد قتله جليات الجبار، أثارت غيرة شاول بصورة أشد ضراوةن وسرعان ما انقلبت غيرته إلى كراهية شديدة عندما سمع النسوة يغنين: "ضرب شاول ألوفه وداود ربواته" (1صم 18: 7). وأمعن شاول في التفكير في تلك الكلمات إلى الحد الذي يقول عنه "سايك": "إنه في لحظات جنونهه فقد كل حذر وتحفظ، ولكن مع التزامه بوعده بمكافأة من يقضي على الجبار الفلسطيني، استدعى داود إلى بلاطه وجعله رئيساً على ألف وأعطاه ابنته ميكال زوجة بشروط عسرة التنفيذ (1صم 18: 25)، وكان يأمل - في خبث - أن يكون ذلك فخاً لاصطياده. وعلى مدى الشهور بل والسنين الطويلة، ظلت أغنية النسوة البغيضة تتردد في أذنيه، وأخفى - تحت ستر الصداقة الزائفة لصهره - نية القتل في قلبه. وكان من الطبيعي أن يبادر داود إلى الهرب إلى صموئيل في الرامة محتمياً في مخبأ مقدس في نايوت (1صم 19: 18) حيث كان يقيم بنو الأنبياء. ثم اضطر داود أن يترك الرامة ويلجأ إلى أخيمالك الكاهن في "نوب"، إلا أنه لا صموئيل النبي ولا أخيمالك الكاهن أمكنهما توفير حماية مأمونة له، ولا شك في أن شاول ارتاب في أن صموئيل يتآمر على العرش، كما يحتمل أن أخيمالك كان يخشى شاول. حتى يوناثان لم يقدر أن يحمي داود، وكما يقول "كورنيل" (Cornill): "لعل شاول شك في أن داود قد دخل مع يوناثان في مؤامرة ضده لعزله وإقامة يوناثان ملكاً عوضاً عنه"، ولم يكن من سبيل أمام داود سوى الهر بمن امام شاول ورجاله، ومن ثم هرب داود إلى أخيش ملك جت، مجازفاً بإلقاء نفسه تحت رحمة أعدائه الفلسطينيين، فهناك - على الأقل - لن يقدر شاول أن يطارده (1صم 19: 11، انظر عنوان مز 59). (2) داود ويوناثان: ظل إعجاب يوناثان - الابن الكريم غير الأناني من أبناء شاول الملك - ينمو باطراد بالرغم من عدم تخليه عن التزامات البنوة نحو شاول أبيه، فإن "نفس يوناثان تعلقت بنفس داود وأحبه يوناثان كنفسه" (1صم 18: 1) بل إن شاول نفسه - في لحظات هدوئه - لم يفقد تماماً عاطفته من نحو داود. أما الصداقة بين داود ويوناثان فكانت من أنقى وأوفى أنواع الصداقة في كل الأداب العالمية. وتزوج داود ميكال ابنة شاول، ومع ذلك دفع شاول داود - بخطى سريعة - إلى منفى اضطراري، فلم تكن محبة يوناثان الخالية من الأنانية، ولا إخلاص ميكال التي أنقذت زوجها بحيلة بارعة، كل هذا لم يكن بكافٍ لتسكين مشاعر الإحباط التي داهمت روح داود في بعض الأوقات. لقد علم أن شاول الملك جاهر بنيته في قتله، وهكذا حدث انشقاق علني بينهما. كان لجوء داود إلى أخيش ملك جت عملاً يتصف بعدم الروية، بل نتج عن ضعف إيمان. وسرعان ما اكتشف أنه غير مرغوب فيه بين أعدائه، مما جعل إقامته في بلاط أخيش قصيرة، وربما كان وجود سيف جليات في يده (1صم 21: 9) سبباً في إثارة الفلسطينيين، ولم ينقذه من يدهم إلا تظاهره بالجنون إذ "أخذ يخربش على مصاريع الباب ويسيل ريقه على لحيته" (1صم 21: 13)، ويشير عنوانا المزمورين 56، 34 إلى هذه الواقعةن ومزنهما نعلم أن الفلسطينيين ق سجنوه ولكن أخيش أطلق سراحه. وإذ وجد نفسه طريداً، لجأ إلى مغارة عدلام - وهي مغارة لا تبعد كثيراً عن جنوب غربي بيت لحم، ويغلب أنها المكان الذي يدعى في العربية "عايد الماء". "فلما سمع اخوته وجميع بيت أبيه نزلوا إليه إلى هناك، واجتمع إليه كل رجل متضايق وكل من كان عليه دين وكل رجل مر النفس، فكان عليهم رئيساً وكان معه نحو أربعمائة رجل" (1صم 22: 1، 2). وصار أولئك القوم نواة "عالم جديد". وكان جاد الرائي وأبياثار الكاهن بين أولئك الرجال. (3) الاضطهاد: إلا أن مأساة مطاردة شاول لداود كانت مازالت في بدايتها، ومما يستلفت النظر أنه طوال سنوات الحرب المتقطعة بين الملك شاول وداود، لم يستخدم داود سوى سلاح الهرب لأنه فضل أن يهرب من وطنه عن أن يرفع يده ضد الملك، وكان لذلك تأثيره على حياته الروحية كما تبدو في سيرته التالية ومزامير الخلاص المنسوبة إليه (1صم 22؛ مز 27، 34)، وقد عبَّر عن ذلك "ألكسندر ماكلارن" بقوله: "لقد عمَّق ذلك من اتكاله غير المشروط على الله. وبانتقاله بين الحرارة والبرودة، والخوف والأمل، والخطر والأمان، فإن نفسه قد اكتسبت مرونة وصارت قوية لامعة كالفولاذ، ونمت فيه خصائص القائد، وتعلَّم الحزم والجلد والدقة والصبر والبسالة والرقة، مما جمع حوله قوة من الرجال المخلصين له مرتبطين به بحماسة ارتباطاً وليد سنوات طويلة من المعاناة والخطر والمحن. ولتحقيق المزيد من الأمان لوالديه المسنين، هجر داود مغارة عدلام لينقلهما من بيت لحم إلى المصفاة في موآب (1صم 22: 3، 4؛ انظر راعوث 4: 18-22)، حيث أقام أبوه وأمه في حماية ملك موآب طول فترة إقامته في الحصن. ويقول تقليد يهودي إن الموآبيين قتلوا أبا داود وأمه وأخوته في أثناء إقامتهم لديهم. ولعل الحصن هو ذاته قلعة "ماسادا"، وهي مكان منعزل بالقرب من "عين جدي" على الشاطئ الغربي للبحر الميت. وبناء على نصيحة النبي جاد لجأ إلى وعر حارث (1صم 22: 5) الذي يقع إلى الشرق أو الجنوب من حبرون، واختبأ هناك إلى أن شن الفلسطينيون هجوماً على قعيلة وهي بلدة إلى الجنوب الغربي من يهوذا، وبتوجيه إلهي نزل داود ورجاله - الذين كان قد زاد عددهم حينئذ حتى بلغ ستمائة رجل - نزلوا وخلصوا قعيلة من أيد الفلسطينيين. ومن المرجح جداً أنه في ذلك الحين شق الأبطال الثلاثة ذوي الشهامة من رجال داود، طريقهم وسط حشود الفلسطينيين الذين كانوا يعسكرون وقتئذ في بيت لحم وأحضروا لداود جرعة ماء من بئر بيت لحم ليشرب (2صم 23: 15، 16). ويبدو أن اهتمامه الأكبر في ذلك الحين هو حماية أرواح وممتلكات مواطنيه من اللصوص والغزاة، واستولى داود على قعيلة وكان من المحتمل أن يقيم هناك طويلاً، لو لم يسارع شاول بإرسال جيش لمحاصرة داود ورجاله في قعيلة للإيقاع بهم، ولكن قبل أن تصل قوات شاول إلى قعيلة كان داود قد استشار الرب عنن طريق أفود أبياثار الكاهن، فأخبره ألا يقيم في المدينة بل ليهرب منها. فنفذ ذلك وذهب ورجاله الستمائة حيثما اتفق (1صم 23: 1-13). ومن هنا يصعب متابعة القصة في سفر صموئيل الأول، فهناك عدة تساؤلات حول بعض الأجزاء، مثل الأصحاحين الرابع والعشرين السادس والعشرين، وهل القصتان تشيران إلى مناسبتين مختلفتين، أم أنهما روايتان مختلفتان لواقعة واحدة، فالتشابه بينهما ملحوظ رغم وجود بعض الاختلافات في التفاصيل. لجأ داود بعد ذلك إلى برية زيف جنوب شرقي حبرون حيث جاء لتوديعه صديقه المخلص يوناثان، وافترقا بعد تعاهدهما على المحبة، حيث نقرأ عبارة من أنبل العبارات التي نطقت بها شفاه بشر، إذ "قال (يوناثان) لا تخف لأن يد شاول أبي لا تجدك وأنت تملك على إسرائيل وأنا أكون لك ثانياً وشاول أبي أيضاً يعلم ذلك" (1صم 23: 17). ولما أراد الزيفيون الغدر بداود وتسليمه ليد شاول، هرب إلى برية معون - وهي أبعد قليلاً إلى الجنوب الشرقي - واستمر شاول في مطاردته مطاردة الحجل في الجبال (1صم 23: 14 - 25؛ 26: 20) وكاد ينجح في اصطياده لولا أن رسولاً أبلغ الملك بأن الفلسطينيين قد اقتحموا الأرض، فوقع هو ورجاله في حالة من الارتباك (1صم 23: 24-27). لجأ داود  بعد ذلك إلى حصن "عين جدي" على الشاطئ الغربي للبحر الميت، وجدد شاول بحثه عنه بمعاونة 3.000 رجل (1صم 24: 1، 2). وحدث في هذه المرة أن تقابل المطارد والطريدة وجهاً لوجه. واقترب داود من شاول حتى استطاع أن يقطع جزءاً من طرف جبة شاول (1صم 24: 3)، وترتب على ذلك تلك المواجهة العاطفية من اعتذار وصفح (1صم 24: 8-22). وقبل أن يفترقا اعترف شاول بخطأه، واستحلف داود - متى تولى العرش - ألا يقضي على بيته ويورى البعض أن للمزمورين السابع والسابع والخمسين أساس تاريخي في خبرات داود بالمغارة بالقرب من عين جدي حيث قطع طرف جبة شاول. (4) النفي: ومات صموئيل نحو هذا الزمان، وخلا منه بيت الرامة، وحدث إحساس بالفراغ من بعده، وبخاصة أنه لم يقم بعده شخص من نوعية صموئيل لتقديم النصح للملك العنيد. أعرب شاول في "عين جدي" عن أسفه لمجازاة داود شراً مقابل الخير، ولكن داود لم يستطع الاطمئنان إلى شخص سريع الانفعال ومتقلب المزاج مثل شاول. ولذلك قام ونزل إلى برية فاران جنوبي يهوذا، ومن ذلك الحين لم يعد داود طريداً وحيداً، بل بالحري "زعيم عصابة قوية"، فقد شكل من نفسه ومن أتباعه الستمائة، قوة حرس لحماية قطعان الغنم في المنطقة. وكان نابال وهو من أصحاب قطعان الغنم الأثرياء, من عشيرة كالب، وكان يقيم بالقرب من الكرمل في جنوبي يهوذا، وكان من بين المدينين كثيراً لداود ورجاله (1صم 25: 21). وحل الموسم السنوي لجز الأغنام، فأرسل داود عشرة من غلمانه إلى نابال لتحيته، وليلتمسوا منه طعاماص له ولمرافقيه، إلا أن نابال كان أنانياً بخيلاً ليس لديه شيء من المنطق السليم أو اللياقة، فقابل رسل داود مقابلة فظة صارمة، فلما أبلغوا داود بذلك، تأجج غضبه وصمم على الانتقام فوراً من "الغني الأحمق" (كما يعني اسم "نابال"). وأدركت أبيجايل - زوجة نابال الحكيمة - ما يوشك أن يحدث، فأعدت هدية وذهبت لملاقات داود لتقديم الاعتذار اللائقن وقد جاء عملها في الوقت المناسب، لأن داود كان في طريقه بالفعل لإبادة بيتت نابال وكل ماله. وألقت أبيجايل بنفسها عند قدميه، واعتذرت إليه  بعبارات رقيقة حركت ضمير داود فتراجع عما كان قد عزم عليه، ومات نابال بعد ذلك بعشرة أيام. وفي الوقت المناسب تزوج داود من الأرملة الجميلة الرقيقة، وهكذا انتقلت ثروة نابال إليه (1صم 25: 14-42). وتزوج داود أيضاً من "أخينوعم من يزرعيل" (1صم 25: 43) ولعل ذلك كان قبل زواجه من "أبيجايل" فهي من نفس المنطقة (يش 15: 55، 56). ويبدو أن الزيفيين خدعوا داود للمرة لاثانية، إذ أن شاول ومعه ثلاثة آلاف بقيادة أبنير رئيس الجيش، قام بمحاولة أخيرة للقبض على العدو المزعوم للملك. وإذ نال منهم التعب اضطجع الملك ورجاله طلباً للراحة، يحيط به رجاله في وسط المعسكر. وبينما هم نيام أخذ داود وأبيشاي ابن صروية - أخو يوآب - رمح الملح وكوز الماء. وكان في إمكان داود أن يأخذ حياة الملك أيضاًن ولكنه لم يفعل، بل صعد إلى رأس جبل في الجهة المقابلة من الوادي، ووبخ أبنير لأنه لم يحرس ملكه كما ينبغي. وبينما هو يتكلم عرف شاول أنه داود، فقال له: "أهذا هو صوتك يا ابني داود ... ارجع يا ابني داود لأني لا أسيء إليك بعد ..." (1صم 26: 17و21). إلا أن داود ذهب "في طريقه ورجع شاول إلى  مكانه" (1صم 26: 25). وكان هذاا هو اللقاء الأخير لداود مع شاول. واقتربت حياة داود في المنفى من نهايتها، إذ يبدو أنه كان قد مل الحياة طريداً، وفي يأسه ألقى بنفسه تحت رحمة العدو التقليدي، وهو أخيش ملك جت، ولكنه في هذه المرة لم يأت إلى أخيش كطريد هارب، بل كقائد لجماعة كبيرة مرهوبة الجانب تصحبهم زوجاتهم وأولادهم (1صم 27: 3، 4). وليضمن أخيش صداقة داود، أعطاه "صقلغ"، وهي مدينة على الحدود الجنوبية الغربية لمملكة يهوذا، ولعلها كانت غير مأهولة في ذلك الحين، إلا أن داود قبلها وأقام فيها مع زوجتيه وعاش فيها ستة عشر شهراً. ولكنه في ذهابه إلى الفلسطينيين، أقحم نفسه في سلسلة طويلة من أعمال العنف والخداع. وبناء على ما جاء في سفر أخبار الأيام، نجد أن داود تقوَّى بالعديد من الرجال جببرة البأس من إسرائيل، الذين انضموا غليه (1أخ 12). ومن الأمور الجديرة بالملاحظة أنه فيي تلك الفترة، نجح جاود في إقناع أخيش بأنه في الغزوات التي كان يقوم بها بين الحين والآخر، إنما كان يحارب أعداء الفلسطينيين، بينما كان في الواقع وبصورة أساسية - يمهد الطريق لحكمه هو كلملك عن طيرق استئصال أعداء إسرائيل. ولعل داود - في كل هذه الأعمال - لجأ إلى أساليب المكر والخداع (1صم 27: 8-12) فقد كان يحارب أعداء يهوذا طوال الوقت متظاهراً أمام أخيش بأنه يحارب يهوذا. وحتى يحفظ المر سراً، لم يحتفظ بأي أسرى. ومع هذا ظل أخيش يثق فيه ثقة عمياء حتى أنه عندما أعد نفسه لهجوم عارم على شاول - الذي انتهى بموقعة جلبوع - دعا داود لمرافقته. إلا أن رؤساء الفلسطينيين لم يشاركوا ملكهم في ثقته، واحتجوا ضد ذهاب داود معهم، وأجبروه على الرجوع. ويقول "كورنيل": لعل داود لم يشكر ربه بحرارة مثلما شكره عندما عاد إلى بيته دون مرافقة أخيش لقتال شعبه.   خامساً: داود يملك على سبط يهوذا: انتهت مهمة شاول بماساة، إذ اقتحم الفلسطينيون مرةأخرى الأراضي الإسرائيلية واحتلوا الطرف الشرقي لوادي يزرعيل، بينما عسكر الإسرائيليون بقيادة شاول في منطقة جلبوع. وكان شاول - في وقت سابق، في نزوة م الحماس الديني - قد نفى  كل أصحاب الجان والتوابع من الأرض، إلا أنه في الليلة السابقة للموقعة الفاصلة، استسلم للخرافات، ودار خفية حول معسكر الفلسطينيين ليستشير صاحبة جان في "عين دور"، وهي قصة من القصص المحزنة، إذ كان الاس قد حل به. ويصف "دافيدسون" الصراع الذي جاش في نفسه قائلاً: "وفي عجزه الكامل بحث عن صموئيل الذي كان صديقاً له في بداية حكمه، ورجع بفكره إلى الأيام الأولى، ولكن هيهات فقد ضاع كل شيء". لقد فقد الثقة في نفسه وفي عون إلهه، فلما عاد إلى أرض المعركة ورأى الموقف ميئوساً منه، سقط على سيفه ومات (1صم 31: 1-6). (1) رثاء داود لشاول: كان داود من أكثر النائحين على شاول، إخلاصاً. وقد رثاه ويوناثان ابنه بمرثاة خالدة تعرف "بنشيد القوس" وتعتبر واحدة من درر الشعر العبري، وهي من نظم داود ولعلها نظمت تذكاراً ليوناثان لأنه كان من أمهر الرماة بالقوس. ويكشف هذا النشيد عن روح داود العظيمة، فهو لايفرق في رثائه بين عدوه وصديقه، بل جمع بينهما، منشداً: "شاول ويوناثان المحبوبان والحلوان في حياتهما لم يفترقا في موتهما أخف من النسور وأشد من الأسود كيف سقط الجبابرة وبادت آلات الحرب" وهكذا وجد داود متنفساً لأحزانه لمأساة موت رجل عظيم، مع استعداد عميق للمغفرة رغم أنه ظل يطارده سنوات طويلة. فهذا النشيد هو "مرثاة رجل الله لعدوه الميت وصديقه الميت"، ويعتبر سابقة جميلة في العهد القديم لوصية المسيح بمحبة الأعداء. وقد نقلت روعة هذا النشيد إلى "المارش الجنائزي" الشهير "بشاول" والذي كثيراً ما يستخدم في جنازات العظماء. ومن حسن الحظ أنه لم يتح لداود - لأسباب خارجة عن إرادته - أن يحارب مع الفلسطينيين ضد شاول. ولما أرجع الملك أخيش داود من الذهاب معه إلى الحرب بسبب رفض أقطاب الفلسطينيين، رجع داود إلى صقلغ ليجد أن العمالقة قد غزوها وأحرقوها بالنار وسبوا النساء اللواتي فيها ومعهن زوجتاه" (1صم 29، 31). ولم يتوان داود - بعد استشارة الرب - عن اللحاق بالغزاة، ونجح في الانتصار عليهم واسترجع زوجتيه وأملاكه. وبعد نظر أصيل فيه، أرسل من غنائم الحرب إلى شيوخ يهوذا الذين قانوا قد صادقوه في أيام نفيه الاضطراري. وينقسم حكم داود إلى فترتين غير متساويتين، ففي حبرون ملك سبع سنين، وفي أورشليم ملك ثلاثاً وثلاثين سنة (1مل 2: 11). ولما كان شاول ويوناثان قد ماتا آنذاك، وكان الرب قد أكد لداود حقه في العرش، تقدم داود بثقة إلى حبرون مصحوباً بمحاربيه المسلحين وأتباعه الأوفياء، "وأتى رجال يهوذا ومسحوا داود ملكاً على بيت يهوذا" فقد كانت المشاعر القبلية لدى سبط يهوذا قوية، فدفعتهم إلى العمل دون استشارة باقي الأمة، وهكذاا بدون أي معارضة، مسح داود ملكاً على سبط يهوذا في حبرون، وهي مدينة كانت بحكم روابطها المقدسة وموقعها المتوسط، مؤهلة - ولو مؤقتاً - لأن تصبح عاصمة داود. وهكذا أُتيح لابن يسى أن يجني ثمرة جهاده. وكان أول عمل عام لداود بعد تتويجه هو أن يرسل إلى رجال يابيش جلعاد ليباركهم على نبلهم لعنايتهم بأجساد شاول وابنائه الثلاثة، ولكنه حرص في ذات الوقت على إبلاغهم أنه قد أصبح ملكاً على يهوذا: " وإياي مسح بيت يهوذا ملكاً عليهم"، ولكن لم يظهر رجال يابيش أي استجابة (2صم 2: 5-7)، وفي الوقت نفسه كان أبنير - ابن عم شاول ورئيس جيشه - قد أخذ إيشبوشث أو اشبعل (2صم 2: 8؛ 1أخ 8: 33) أصغر ابناء شاول ونادب به ملكاً في "محنايم" شرقي الأردن، وكما يقول "كورنيل": "من بين أطلال مملكة شاول، كان يأمل أن يؤسس مملكة". وعلى كل لم يكن إيشبوشث أكثر من ملك صوري وكان إيشبوشث "ابن أربعين سنة حين ملك على إسرائيل، وملك سنتين" (2صم 2: 10). وكان أبنير هو الملك الحقيقي وقد جعل إيشبوشث "ملكاً على جلعاد وعلى الأشوريين (الجشوريين)، وعلى يزرعيل وعلى أفرايم وعلى بنيامين وعلى كل إسرائيل" (2صم 2: 8،9)، ولكن عندما شرع في إخضاع يهوذا نشبت الحرب. وبدأ الصراع في بادئ الأمر على شكل مبارزة في جبعون بين مجموعتين تتكون كل منهما من اثني عشر رجلاً. ولكن فيما بعد حدثت معركة شرسة انتهت بهرب أبنير ورجاله من أمام يوآب ابن أخت داود - وكان هذا أول ظهور ليوآب - وفقد يوآب عشرين رجلاً في المعركة بينما فقد أبينر ثلاثمائة وستين رجلاً. (2) الحرب مع إسرائيل: عندما رأى أبنير أنه في الصراع بين بيت داود وبيت شاول، كان على الجانب الخاسر، تخلى عن إيشبوشث وانضم إلى داود، وكان هذا ضرباً من الخيانة، وكانت العلة الظاهرة هي زواج أبنير من رصفة سرية شاول، وهو عمل فسره إيشبوشث - طبقاً للتقاليد الشرقية - على أنه مطالبة بالعرش، وفي ساعة غضب أنب إيشبوشث أبنير على زواجه من سرية أبيه، فغضب أبنير وأعلن جهاراً نيته في التخلي عنه والانضمام إلى داود. وعلى لافور أرسل رسلاً إلى داود يعرض عليه سيفه ومعطياً إياه تأكيدات بأن في مقدوره أن يستميل إلى جانبه كل إسرائيل من دان إلى بئر سبع. إلا أن داود لم يسمح لنفسه بإظهار اللهفة على هذا الأمر، فاشترط لكي يختبر إخلاص أبنير - على الأرجح - أن يأتي أبنير بميكال الزوجة السابقة لداود، والتي كان شاول قد أخذها منه، وذلك لأن داود رأى أن زواجه من ابنة شاول بجعله يبدو في عيون غسرائيل كمن له الحق في أن يرث الملك شرعاً. فاستجاب أبنير لأمر الملك وانتزع ميكال من زوجها، غير مبال بكائه. وكان داود في تلك الأثناء - كرئيس شرقي - قد أضاف أربع زوجات جدد إلى حريمه من الإمارات المجاورة (2صم 3: 2-5). ولكن عندما علم يوآب بما فعله داود وأبنير شعر بغيرة مريرة ووبخ الملك بعنف لمده يد الحفاوة للدبلوماسي الداهية. ولأن أبنير كان قد قتل عسائيل أخا يوآب، أرسل يوآب يستدعي أبنير، وانتحى به جانباً وقتله غدراً، ولم يكن هناك عمل أدق حبكة لحرمان داود من رغبته في كسب ولاء جماعة أبنير. ولو لم يكن الملك قد وبخ يوآب بشدة، ولبس المسوح وأعلن الحداد العام على أبنير، لكان من المرجح أن يفشل تماماً في كسب ولاء الأسباط الشمالية. وقد تتابعت الأحداث المأسوية بسرعة، إذ اغتال رجلان جبعونيان رئيسا غزاة من بني بنيامين، إيشبوشث. وقد وصل هذا العمل الأثيم، بالصراع الطويل بين بيت داود وبيت شاول، إلى نقطة فاصلة، وكان العهد الذي قطعه يشوع مع الجبعونيين منذ عدة قرون (يش 9: 15)، قد نقضه شاول بقتله الجبعونيين (2صم 21: 1، وكان هذان الجبعونيان قد صمما على الانتقام. ومع أن جريمتهما كانت نقطة سوداء في تاريخ إسرائيل، إلا أنها دفعت بقضية داود بشدة إلى الأمام. لقد دخل هذان الرجلان إلى غرفة نوم إيشبوشث وهو نائم نوم الظهيرة عند حر النهار صيفاً فضرباه وقتلاه وقطعاه رأسه، وأخذاها وأتيا بها إلى داود إلى حبرون منتظرين منه مكافأة سخثة. إلا أن داود لم يكن عدواً لبيت شاول، بل بالحري نصيراً له، وهكذا كافأهم بمثلما سبق أن كافأ به العماليقي الذي أخبره أنه قتل شاول (2صم 1: 1-16). وأمر داود الغلمان فقتلوهما، وأما رأس إيشبوشث فأخذه ودفنوه بكل كرامة في قبر أبنير في حبرون (2صم 4: 1-12). وبموت إيشبوشث أصاب بيت شاول الضعف، حتى تلاشى تماماً كل أمل للأسباط الشمالية في الحفاظ على استقلال منفصل، ولم يقف حينئذ أي خصم آخر في طريق داود سوى ابن يوناثان الأعرج ذي الاثنى عشر عاماً، المدعو "مفيبوشث" أو "مريبعل" (2صم 4: 4؛ 1أخ 8: 34، إلا أنه لم يطالب بحقه في العرش، وقد أظهر داود من نحوه أسمى درجات العطف. أما سائر أحفاد شاول الأحياء فكانوا إماصغار السن أو أضعف من أن يقاوموا. وقد تم إعدام سبعة رجال منهم فيما بعد بسبب المجاعة التي حدثت بسبب شاول لأنه قتل الجبعونيين ونقض العهد بين إسرائيل وبينهم (2صم 21: 1-9)، ولكن مفيبوشث نجا من هذا المصير، وهكذا أصبح العرش الذي انتظر داود لمدة طويلة خالياً، فطلب الشعب بصوت واحد داود لشغل العرش. سادساً: داود يملك على جميع الأسباط: سرعان ما أعلنت الأسباط الشمالية عن رغبتهم في أن يملك داود عليهم. وجاء جميع أسباط إسرائيل إلى داود إلى حبرون قائلين له إنهم من عظمه ولحمه، وذكروه بوعد الرب له بأنه يرعى إسرائيل، فقطع داود "معهم عهداً في حبرون أمام الرب ومسحوا داود ملكاً على إسرائيل" (2صم 5: 1-3). وأعقب ذلك احتفال لمدة ثلاثة أيام (1أخ 12: 39). إلا أنه بقبوله عرض إسرائيل بالولاء له، كان يعلن في نفس الوقت عدم الخضوع للفلسطينيين فأصبح في نظرهم متمرداً، ولذلك صمموا على القضاء على مملكته وهي في مهدها. وقبل أن يتسع الوقت لداود لتجميع قواته، قاموا بغزو يهوذا واحتلوا بيت لحم، واضطروه إلى الاحتماء بمعقله السابق، إما في مغارة عدلام أو في حصن "صهيون" الذي كان قد استولى عليه منذ وقت قصير. واستمرت حرب العصابات فترة ممتدة بين داود والفلسطينيين، إلا أن الإسرائيليين اكتسبوا المزيد من القوة، حتى استطاع داود في النهاية أن يهزم الفلسطينيين في مكان قريب من جبعون يدعى "بعل فراصيم" وطردهم من أرض إسرائيل نهائياً، وقد تركوا وراءهم - عند فرارهم من أمام داود - تماثيل آلهتهم (2صم 5: 17 - 21). (1) عاصمة داود: أظهر داود عبقرية حربية نادرة أيضاً في استيلائه على أورشليم من أيدي اليبوسيين وجعلها عاصمة جديدة له. وكان حصن هذه القلعة العتيقة مما لا يمكن اقتحامه، ولكن ببصيرة فريدة رأى فيها داود عاصمته المستقبلة. وعندما عزم على غزوها، قوبل بسخرية شديدة بالقول، إن العمي والعرج بمقدورهم الدفاع عنها ضد داود (2صم 5: 6). ومع هذا فإنه استطاع بهجوم مفاجئ أن يستولي على قلعة اليبوسيين، وجعل منها عاصمة لملكه، وأصبحت تعرف بعد ذلك باسم "مدينة داود" (2صم 5: 9؛ 2أخ 11: 7). ولا يمكن المبالغة في أهمية هذا الأمر فالموقع المتوسط "لأورشليم" وموقعها المنيع الذي يصعب اقتحامه، ويسهل الدفاع عنه، وكونها على الحدود بين يهوذا وبنيامين، وعلاقتها لاقديمة بالملك الكاهن ملكي صادق، كل ذلك جعل منها أحكم الاختيارات الممكنة كعاصمة للمملكة الموحدة، كما أنه دليل على بعد نظر داود وكفاءته الإدارية، وقد ظهرت أهمية الاستيلاء عليها في حينه. وكانت المكافأة التي نالها يوآب الذي بلغ إلى "القناة" أولاً، هي تقلده أرفع المناصب بالجيش إذ أصبح القائد العام (1أخ 11: 6). (2) خصائص مميزة: من الخصائص الكثيرة التي امتاز بها داود، قبل تتويجه ملكاً لكل إسرائيل: شجاعته في قتل جليات، وعدم مقاومته عداوة شاول اللدودة بمثلها، ودبلوماسيته في اكتساب تعاطف أهل بلاده، وصداقة أعدائه من الفلسطينيين، وتسامحه مع بيت شاول عندما اختاره الله ملكاً على العرش كما سبق أن أعلن صموئيل عند تقديمه للذبيحة في بيت لحم، وبصيرته الإدارية النفاذة التي تجلت في اختيار أورشليم عاصمة جديدة لإسرائيل الموحدة، وفوق كل شيء، إيمانه الراسخ غير المتزعزع في عناية الله. ومن هذه النقطة سوف نكتشف - في حياته التالية - كيف تحمل بجلد أعباء مركزه العظيم،وماذا كانت نقاط ضعفه. سابعاً: أورشليم المركز الديني: وعلى النقيض من شاول، لم يكن داود ليرضى بعاصمة لا هيكل فيها، فتابوت العهد الذي ظل ما يقرب من سبعين سنة "في بيت أبيناداب في قرية بعاريم" (1صم 7: 1)، وصمم داود على إحضاره ووضعه في قلعته الجديدة، إلا أن اندفاع "عُّزة" في الإمساك بالتابوت عطل محاولة الملك فكان ذلك سبباً في بركة بيت أدوم. ولكن بعد ثلاثة أشهر أبدى الملك رغبته مرة أخرى في نقل التابوت، وقد حملوه هذه المرة على الأكتاف (2صم 6: 13)، ورافقوه بالهتاف والبوق والموسيقى والرقص إلى الخيمة الجديدة التي كان داود قد أعدها له (2صم 6: 17؛ 2أخ 1: 3، 4). وبوجود التابوت في أورشليم، أصبحت "المدينة المقدسة" وكان ذلك اليوم أعظم الأيام في حياة داود، ونقطة تحول في تاريخ إسرائيل. ولكن حدث ما شوه عظمة ذلك اليوم، فعندما دخل تابوت الرب مدينة داود أشرفت ميكال ابنة شاول من الكوة ورأت الملك داود يطفر ويرقص أمام الرب فاحتقرته في قلبها، وأمطرته بسيل من السخرية اللاذعة. فأجاب داود على زوجته - نصف الوثنية - بنفس أسلوبها و"الإهانات تجلب الإهانات" ويبدو أن ميكال وداود قد افترقا بعدها (2صم 6: 23). والمزمور الرابع والعشرون هو تخليد لذكرى إحضار التابوت إلىأورشليم، حتى إن "كورنيل" (Cornil) يعلق عليه بقوله: "إن لم يكن داود قد كتب أي مزمور، فلا شك في أنه كتب المزمور الرابع والعشرين لترتيله في تلك المناسبة العظيمة". ويجب أن نلاحظ أن داود قد صور بوابات المدينة الوثنية، وكأنها لا تتسع لدخول "ملك المجد". ويعتقد البعض أن هناك مزامير أخرى ترتبط بالاحتفال بإحضار التابوت (انظر مثلاً مزامير 15، 29، 30، 68، 101، 132). إلا أن داود لم يكن راضياً بأن يسكن تابوت الرب في "خيام"، وأراد أن يبني بيتاً مستديماً للرب. وقد شجعه - في البداية - ناثان النبي بالقول: "اذهب افعل كل ما بقلبك لأن الرب معك" (2صم 7: 1-3)، ولكن الله أعطاه بعد قليل، أمراً مختلفاً، فقال ناثان لداود في النهاية، إنه لن يبني بيتاً للرب، بل الرب "يصنع لك بيتاً"، بمعنى أنه سوف يثبت كرسي مملكته ويقيم له نسلاً ومملكة تبلغ ذروة كمالها في "المسيا"، حيث تصبح مملكة دائمة وأبدية (2صم 7: 13). ويوضح سفر أخبار الأيام لماذا رفض الرب أن يبني داود له بيتاً دائماً: "لا تبني بيتاً لاسمي لأنك أنت رجل حروب وقد سفكت دماً" (1أخ 28: 3). وهذا يعني أكثر من مجرد القول، بأن داود كان منهمكاً في الحروب، لدرجة لا يستطيع معها أن يبني بيتاً دائماً لتابوت العهد (1أخ 22: 8).     ثامناً - انتصارات داود الرائعة: كان داود محارباً عظيماً، وكما قيل عنه في حربه مع بيت شاوول أنه كان "يذهب يتقوى" (2صم 3: 1)، هكذا كان في صراعاته مع الأمم المجاورة حيث حقق انتصارات باهرة، مثال ذلك: (1) على الفلسطينين:  فرغم اندماجهم بالفعل في مملكته، إلا أنه تمكن في معارك متكررة أن يكسر شوكتهم تماماً، فقد "ضرب داود الفلسطينيين وذللهم وأخذ زمام القضية من يد الفلسطينيين" (2صم 8: 1)، وبدلاً من أن يكون هو خاضعاً لهم. خضعوا هم له ودفعوا له الجزية. (2) على موآب: ويقول تقليد يهودي - كما سبق - أن الموآبيين قتلوا والدي داود عندما وضعهما تحت رعايتهم وهو مطارد من شاول. إلا أنه مهما كان سبب الحرب بين موآب وإسرائيل - سواء كان للانتقام أو الطمع - فقد نجح داود تماماً في إبادة ثلثي الموآبيين وجعل ممن بقوا عبيداً له (2 صم 8: 2). (3) وبنفس الكيفية أذل هدد عزر ملك صوبة، وكانت أشور وبابل في ذلك الحين ضعيفتين، فانتهز هدد عزر الأرامي تلك الفرصة لإقامة امبراطوريته على أنقاض امبراطورية الحثيين. ولكن داود حاربه طويلاً هو وحلفاءه، وخرج في النهاية منتصراً وأخذ غنيمة ثمينة. وكانت النتيجة أن المنطقة الغنية حول دمشق أضيفت إلى أملاك داود، حتى أن "توعي" ملك حماة أرسل له هدايا ثمينة (2صم 8: 3-12). (4) انتصر أيضاً على الأدوميين انتصاراً باهراً. وما جاء عن ضربة ثمانية عشر ألفاً من أرام (2صم 8: 13، 14)، نعلم من سفر الأخبار أن المقصود بذلك هم الأدوميون (1أخ 18: 12)، إذ يبدو أن انشغال داود بحروبه في أقصى الشمال، أتاح للأدنوميين الفرصة أن يغزوا يهوذا من الجنوب، فقابلهم يوآب - نيابة عن داود - وهزمهم في الطرف الجنوبي للبحر الميت هزيمة نكراء فصاروا عبيداً لداود. (5) ويسجل التاريخ انتصاراً آخر لداود هو انتصاره على العمونيين، إذ أن الإهانة التي ألحقها "حاون" برسل داود الذين أرسلهم للتهنئة، اعتبرها داود إعلاناً للحرب، وكانت حرباً طويلة، حتى وجد العمونيون أنه من أجدى لهم أن يستأجروا جيرانهم الأراميين كمرتزقة. وخطط داود لهجم مزدوج، ساعد فيه أبيشاي أخاه يوآب وانتصر كلاهما، وسقطت "ربة" عاصمة بني عمون بعد حصار طويل (2صم 10). (6) كما هزم عماليق أيضاً (2صم 8: 12) وبالإيجاز "كان الرب يخلص داود حيثما توجه" (2صم 8: 6: 14)، وهكذا أصبحت إسرائيل بفضل قيادة داود وبراعته العسكرية، خلال سنوات قليلة - أبرز الشعوب وأهمها في غربي آسيا. إلا أنه - كما يلاحظ "كورنيل"، لا يمكن الادعاء بأن داود كان البادئ في أي حرب من تلك الحروب - كما أن داود تعامل بالعدل والحق مع جميع الشعوب التي خضعت له. ومن الجلي أن نجاحه وشهرته كانا ثمرة لحسن تصرفه إذ "كان داود يجري قضاء وعدلاً لكل شعبه" (2صم 8: 15). وترتبط بهذه الحروب بعض المزامير (110؛ 60: 6-12؛ وهي مكررة في مزمور 108 : 7-13؛ مز 68؛ 18 (2صم 22)، مز 20، 21). تاسعاً: نكبات داود في أواخر أيامه: يسجل الأصحاحان الحادي عشر والثاني عشر من سفر صموئيل الثاني أشد مأساة في حياة داود، إذ أنه ما إن وصل إلى أوج قوته حتى سقط. وبعد أن انتصر على جميع الأمم من حولهن فشل في الانتصار على نفسه، فارتكب جريمة مزدوجة، زرعت بذور الشر في بقية حياته، وكانت الوصمة الكبرى في حياته الناجحة. وحتى يمكن إدراك شناعتها، علينا أن نذكر سمو مركزه الملكي، فقد كان على قمة واحدة من أبرز القوى في العالم القديم في ذلك الوقت، وكان لديه جيش من مائتين وثمانين ألف محارب على رأسهم يوآب القائد المظفر، ومعه أكثر من ثلاثين من القادة الأبطال الذين برزوا لبسالتهم في حروبهم ضد الفلسطينيين (2صم 23؛ 1أخ 11). كما كان لداود حرس خاص من ستمائة من الجلادين والسعاة والجتيين (2صم 8: 18؛ 15: 18). وعلاوة على ذلك، كان داود رجل نظام فقد أسس المحاكم لتحقيق العدالة، ووسع دائرة التجارة، وعيَّن مشرفين للزراعة (1أخ 27: 25-31)، ونظر اللاويين والمغنيين في خيمة الاجتماع. وما قيل عن أوغسطس قيصر من أنه: "وجد روما حجرة وتركها رخاماً" يمكن أن يقال عن داود أنه وجد الأمة في حالة فوضى فقام بتنظيمها. (1) بثشبع: كان قد جاوز الخمسين من عمره، وكان يجب أن يكون أفضل معرفة، ولكن "بداخل كل إنسان صالح توجد طبيعتان تتنازعان السيادة". وينبغي أن نلاحظ أن تجربة داود حدثت في فترة من فترات الرخاء والاستجمام، فكان يوآب قد مضى بالجيش للقتال: "وأما داود فأقام في أورشليم" (2صم 11: 1)، وبطبيعة الحال لم تكن خطيئته سوى الذروة الطبيعية لحياة مديدة من تعدد الزوجات - وهو ما كان مألوفاً عند ملوك الشرق (2صم 3: 2-5)، ولكن لم يكن لداود عذر مطلقاً، فقد "تغلبت الشهوة على الضمير". ومضت سنة كاملة قبل أن تُعلن له خطيته ويعترف بها، وقد رسمها أمامه ناثان النبي مرسلاً من الله، فجعل الملك داود يرجع لنفسه، وذلكب استخدامه المثل الرائع عن "النعجة". ونلقى داود - بانكسار - الاتهام الصارم الذي واجهه به النبي: "أنت هو الرجل"، واعترف بإرادته بأنه قد أخطأ إلى الرب، الأمر الذي لا يفعله سوى القلائل من الملوك. ويرتبط بهذه الجريمة المزدوجة مزموران هما الحادي والخمسون والثاني والثلاثون، والأول منهما مزمور اعتراف، أما الثاني فمزمور الغفران، وكلاهما في غاية الروعة. (2) ثورة أبشالوم: أما النكبة الكبرى الأخرى التي دهمت داود في سنواته الأخيرة، فهي ثورة ابنه أبشالوم واغتصابه العرش، واضطرار داود للهرب لينجو بحياته. ولعل هذا حدث بعد عشر سنوات من جريمته المزدوجة ضد أوريا وبثشبع. ويقول أحدهم: "مع أن توبة الملك كانت عميقة ومخلصة، إلا أن السلسلة الطويلة من التعاسات التي نجمت عنها، كانت نوعاً من العقاب الإلهي على جريمته الشائنة"، فقد وقعت مآس أخرى في بيته المتعدد الزوجات، فاغتصب أمنون ثامار - أخته لأبيه - ثم طردها ذليلة من أمامه (2صم 13: 1-19). وانتظر أبشالوم - أخو ثامار - بممكر طوال سنتين، ثم قتل أمنون آخذاً بالثأر. والواقع أن ما فعله أبشالوم من قتله أمنون، إنما كان ما يجب على داود أن يفعله نزولاً على حكم الناموس. وهرب أبشالوم إلى جشور حيث قضى لاجئاً ثلاث سنوات، ثم قضى سنتين أخريين في أورشليم.وطوال هذه المدة لم ير وجه الملك، وهكذا أصبح داود وأبشالوم غريبين (2صم 14). ويبدو أنه في نحو ذلك الوقت سقط داود مريضاً (انظر مز 41: 8؛ 39: 4، 13). واغتنم أبشالوم الفرصة، وخطط للاستيلاء على عرش أبيه، وسعى على مدى أربع سنوات لكسب قلوب الشعب، ويبدو أنه نجح نجاحاً كبيراً في ذلك. وكانت معاملة داود لأبشالوم قد أبعدته عنه، كما يبدو أن عدم مبالاته بالشعب، قد أبعدت الشعب أيضاً عنه. وانتشر السخط بسرعة، حتى أن أخيتوفل جد بثشبع (2صم 11: 3؛ 23: 34) والمستشار المخلصل داود، هجره وانضم لأبشالوم. اضطر داود إلى الهرب إلى محنايم في شرقي الأردن تاركاً خلفه "عشر نساء سراري لحفظ البيت" (2صم 15: 16). وصحبه العديدون من أصدقائه المقربين والخدم، وكان من بينهم ابنا أخته يوآب وأبيشاي، وحرسه الخاص، واللاويون إلا أن داود رفض أن يذهب تابوت العهد معه، بل طلب من صادوق وأبياثار الكاهنين البقاء في أورشلي، وإبلاغه بأي معلومات تتجمع لديهما عن خطط أبشالوم. وكلف جوشاي الأركي بالرجوع عن السير معه، وذلك لكي يبطل مشورة أخيتوفل. ودخل أبشالوم مع حاشيته إلى أورشليم فور خروج داود. وكان أول عمل له هو الاستيلاء على قصر أبيه وحريمه. وكان هذا العمل _ في عرف أهل الشرق - يعتبر دليلاً على أن أي مصالحة بينه وبين أبيه، أصبحت ضرباً من المحال. وعهندئذ أشار أخيتوفل أن يطارد أبشالوم ورجاله الملك داود على الفور، إلا أن حوشاي أشار بحشد الجيش أولاً. وقد نفذ أبشالوم نصيحة حوشاي مما جعل أخيتوفل يشعر بإهانة كرامته فانتحر. وبانتحار أخيتوفل، وصلت خطة إحباط مخططات أبشالوم في المطاردة إلى ذروتها، وأدرك أبشالوم ذلك، وبدون مزيد من التردد عبر الأردن ومعه جيشه. وفي تلك الأثناء قسم داود جيشه إلى ثلاثة أقسام بقيادة يوآب وأبيشاي وإتاي على التوالي. وجرت المعركة الحاسمة بينهم وبين أبشالوم في "وعر افرايم" بالقرب من محنايم، وكان عمر داود وقتئذ لا يسمح له بدخول المعركة بنفس، غير أنه أوصى قواده أن يترفقوا بابنه أبشالوم وألا يقتلوه. ولكن يوآب كان يعلم أنه بموت أبشالوم يتحقق انتصار داود، وهكذا عندما أمسك شعر أبشالوم بالبطمة، أخذ يوآب "ثلاثة سهام بيده ونشبها في قلب أبشالوم وهو بعد حي في قلب البطمة" (2صم 18: 14). وكان من الطبيعي أن يحزن داود على ابنه المتمرد، ولكنه سمح لعواطفه ومشاعره أن تجرفه بشدة، فبكى ككما تبكي النساء، ولكن هذه المشاعر المتفجرة كادت ان تكلفه عرشه، فقد بدأ أتباعه في الانفضاض عنه خجلاً، ولكن يوآب القاسي أعاده إلى صوابه، تحت تهديده العنيف. ولم يغفر داود ليوآب ما وجهه إليه من ألفاظ قاسية (2صم 19: 5 - 7؛ 1مل 2: 5و6). وبانتهاء الحرب، دعت جميع أسباط إسرائيل - ما عدا يهوذا - داود للعودة إلى أورشليم، وتمهل شيوخ يهوذا، حتى أوعز إليهم الملك أن يطلبوا عودته، وهكذا تخلى داود عن كرامته المألوفة. ثم ارتكب خطأ جسيماً بسماحه ليهوذا فقط بملاقاته عند عودته الظافرة إلى العاصمة، فانتابت سائر الأسباط الغيرة. ولم يمض وقت طويل حتى قاد شبع بن بكري البنياميني حركة، انتهت بعد جيلين بانقسام دائم بين إسرائيل ويهوذا. وأمر الملك "عماسا" بقمع ثورة "شبع". وكانت في ذلك إهانة ليوآب أدركها تماماً، وهكذا اغتال يوآب "عماسا" غدراً كما سبق أن فعل مع "أبنير". ثم ذهب يوآب بعد ذلك على رأس الجيش وطارد "شبع بن بكري" إلى آبل في أقصى الشمال بالقرب من دان، وهناك قطعوا رأس "شعب بن بكري". عاشرا: السنوات الختامية في حياة داود: يبدو أن السنوات العشر الأخيرة في حياة داود مضت في هدوء وسكينة، فقد كانت إسرائيل في سلام مع جيرانها، ولم يعد هناك أبشالوم ليسرق قلوب الشعب بأساليبه المخادعة، وكانت كل من أشور وبابل ومصر ضعيفة في فترة حكم داود، بينما كانت الممالك الصغرة في سورة وعمون وموآب وأدوم وفينيقية، إما خاضعة تماماً لداود أو متحالفة مع، وكان بين شاول قد انهار تماماً وأصبحت أسرة داود الحاكمةآمنة. ومع ذلك أصابت داود نكبة كبرى أخرى بسبب الوباء الذي داهم أورشليم لمدة ثلاثة أيام حسب إنذار جاد النبي لأن داود أصر على إجراء إحصاء لنبي إسرائيل ويهوذا، ليس بغرض فرض ضرائب، بل لكي يتحقق من عدد رجال الحرب (2صم 24)، وهو أمر لم يكن مألوفاً آنذاك، وقد أثار غضب الله، وعدم رضا الشعب (2صم 24: 3). وقد لام داود نفسه على ذلك العمل (2صم 24: 10) وأوقع به الرب العقاب. ولما كف الرب يده عند بيدر أرونة اليبوسي، أقام داود مذبحاً للرب في ذلك المكان بعد أن اشتراه من صاحبه (2صم 24: 16-18)، وهو الذي أصبح فيما بعد موقع هيكل سليمان (2أخ 3: 1). وبمرور الزمن وهن جسد داود وذهنه، إذ أن الشدائد والمحن التي حاقت به في سنواته الأولى، ثم انغماسه في حياة تعدد الزوجات في سنوات رجولته، كل ذلك أوهن جسده، فبدأ ينحدر ببطء إلى القبر وهو في نحو السبعين من عمره. وقد تنازع اثنان من أبنائه على العرش: أدونيا ابنه البكر والوريث الطبيعي للعرض، وسليمان ابن بثشبع الطموحة. وانحاز يوآب وأبياثار إلى جانب أدونيا، بينما ساند يوناثان النبي وصادوق الكاهن الالنب الآخر سليمان. شرع أدونيا في اغتصاب السلطة، والملك مازال حياً، ولكن سرعان ما فشلت المؤامرة، وتم تنصيب سليمان ملكاً، فنتيجة لتوسلات بثشبع أعلن الملك لامحتضر سليمان وريثاً شرعياً له (1مل1)، ومات داود بعد ذلك بقليل. ولعل للمزمور الثاني علاقة بتلك الفترة. وتسجل كلمات داود الأخيرة في 2صم 23: 1-7، وهي قطعة شعرية فيها خلاصة المُثل التي وضعها داود كحاكم نصب عينيه دائماً، والصعوبات التي عاناها في سبيل تحقيق تلك المُثل. أما وصيته الأخيرة لخليفته على العرش، فكانت من نوع آخر تماماً. فبعدما أوصى سليمان أن يتشدد وأن يحفظ ناموس موسى حتى يفلح (1مل 2: 1-4)، حذره من يوآب وشمعي بن جيرا، وأوصاه الا ينسى جرائمهما، والا يدع شيبتهما تنحدر بسلا إلى الهاوية (1مل 2: 5-9)، وأن يعمل معروفاً مع بني برزلاي الجلعادي فيكونوا بين الآكلين على مائدة الملك لأنهم أظهروا لطفاً مع داود في أثناء منفاه في محناثم عندما هرب من أبشالوم (1مل 2-7). ويقول يوسيفوس أن داود مات في السبعين من عمره، ودفن في مدينة داود (انظر نح 3: 16). ويقول الرسول بطرس في يوم الخمسين إن "قبره عندنا إلى هذا اليوم" (أع 2: 29). ويذكر يوسيفوس أن سليمان دفن كنزاً ضخماً في قبر داود، وأن "هركانوس" سطا على إحدى حجراته وكذلك فعل هيرودس الكبيرن ويسعى الأثريون الآن لاكتشاف ذلك القبر. حادي عشر: تقييم داود: إن داود - بصفة عامة - هو أكثر شخصيات التاريخ الإسرائيلي مواهب وبروزاً، ولا يفوته في  العظمة المثالية والأهمية التاريخية سوى موسى. وقد أكمل ما بدأه موسى، وخلق من إسرائيل أمة وارتفع بها إلى قمة عظيمة برغم كل ضعفاته البشرية، فقد كان في حقيقته رجلاً تقياً أصيلاً، وحاكماً مثالياً، ومحباً للبر والسلام. ويرى "دين ستانلي" أن داود كان عدة شخصيات في شخص واح، فقد كان جندياً وراعياً وشاعراً ورجل دولة ورجل دين، ونبياً وملكاً، وصديقاً وفياً رقيقاً، وقائداً مقداماًن وأباً محباً، ولعل يعقوب هو اقرب الشخصيات إليه في تعدد عناصر الشخصية، ويقول "كورنيل": "وهكذا يمكننا أن نتفهم بسهولة كيف نظر إليه بنو إسرائيل في تقدير واحترام، وكيف صار حلمهم هو أن يروا شخصاً آخر مثل داود". اسس داود أسرة مالكة، ووضع أسس المملكة، كما كان وطنياً، سخياً طيباً، وملكاً ذا مشاعر رقيقة وإيمان راسخ، سياسياً شجاعاً ومتسامحاً، وقد وضع علاقته بالله فوق كل شيء، فكان شديد الاتكال على الله، ولقد تاب بإخلاص عن خطيته الشنيعة. وهو "مرنم غسرائيل الحلو" (2 صم 23: 1). وليس ثمة سبب قوي يمنع من أن يكون الكثير من المزامير البالغ عددها 73 مزموراً والمنسوبة إليه، من كتابته فعلاً. ويقول "موري" (Murray) في كتابه "أصل وتطول المزامير": "إن المؤرخ يمكنه أن يصف شخصية داود - سواء كحاكم عادل عظيم في ذاته، أو باعتباره مغتصباً ذكياً انتزع التاج من فوق رأس شخص آخر - فإن كتاباته الأصيلة تشهد له في كل العصور على أنه أعظم كاتب للأناشيد الغنائية. لقد تغلغل إلى قلب الطبيعة وعبَّر عنها كما لم يفعل آخر، وحلَّق في السماء ورفع البشرية نحو الألوهية". وباختصار فإن اقل ما يمكن قوله في مدح داود هو أنه خلَّص بلاده من الأعداء، ووحّد الأمة، وجعل أورشليم عاصمة للمملكة، واقام العبادة، وهيأ لبناء الهيكل، وأصبح - كحاكم وطني غيور - مثلاً أعلى للأجيال التالي، ورمزاً للمسيا، وقال عنه الله: "وجدت داود بن يسى رجلاً حسب قلبي" (أع 13: 22؛ انظر 1صم 13: 14). وبين العديد من الفضائل التي تميز بها، تبرز عبقريته الشعرية، فكل شاب من الرعاة يحمل قيثارة، إلاا أن قيثارة داود وحدها كانت كفيلة بأن تشفي عقل رجل مريض. لقد كان الموسيقي الموهوب صاحب الأذن الموسيقية، والقلب المرفه، الذي جعل موسيقاه تبهج قلوب الآخرين، كما أن الطبيعة الإلهية فيه هي التي جعلت موسيقاه موسيقى سماوية. ولكن كانت هنا أوقات، نحَّى فيها داود قيثارته جانباً، فقد كان خاطئاً كسائر البشر، فهو "الابن الضال" في العهد القديم، فبعد جريمته المزدوجة ضد أوريا وبثشبع، ظل داود سنة كاملة أو أكثر، دون أن يعترف بخطيته، إلى أن تجاسر ناثان النبي على الذهاب إليه وتوبيخه على خطيته. فالمزمور الحادي والخمسون هو اعتراف بذنبه. وفيما بعد عندما أدرك أن الله قد قبل اعترافه وغفر له، كتب ترنيمة الخلاص التي نقرأها في المزمور الثاني والثلاثين، فنجده يترنم بالغفران، فيبدأ بتطويب "من غفر اثمه وسترت خيطته"، وينتهي بالفرح والبهجة لأن الله قد غفر له. وقد كتب أوغسطينوس هذا المزمور على حائط غرفته أمام سريره. كما كتب داود مزموراً آخر، يتضح منه عمق إيمان داود بالله، فهو يشيد في هذا المزمور مرتين بأن عين الله ترى كل شيء ولا يخفى عليها شيء (مز 139: 23، 24). ويقول أحد المفسرين أن داود هو "كاتب هذا المزمور" وأن يسوع هو مكمل كل ما فيه من نبوات. ولعل العذراء مريم قد علَّمت ابنها الصغير في أيام الناصرة هذا المزمور والمزمور الثالث والعشرين وغيره من المزاميرن ولما جاءت المناسبة المعينة، نطق يسوع بهذه النبوات مطبقاً إياها على نفسه (انظر مثلاً مز 22: 21؛ متى  27: 46). وقد زود العرفان بالجميل داود بموضوع عظيم لأناشيده، فقد عاش حياة الشرك لله، وتغنى بذلك أكثر من أي شخص آخر في الكتاب المقدس، وكان على استعداد دائم لتسليم إرادته لمشيئة الله، حيث يقول: "باركي يا نفسي الرب ولا تنسي كل حسناته" فلم يكن عمل داود الرئيسي هو الحرب ولا الانهماك في شئون الدولة، بل في كتابة المزامير تعبيراً عن تمجيده وشكره العميق للرب. ومن الممكن لللمسيحي في العهد الجديد أن يترنم بنفس لغة داود، فينشد: "أيها الرب سيدنا ما أمجد اسمك في كل الأرض" (8: 1) - "باركي يا نفسي الرب وكل ما في باطني ليبارك اسمه القدوس" (103: 1) - "حبال وقعت لي في النعماء" (16: 6) - "لم يصنع معنا بحسب خطايانا ولم يجازنا حسب آثامنا" (103: 10) - "إليك وحدك أخطأت والشر قدام عينيك صنعت" - "ارحمني يا الله حسب رحمتك. حسب كثرة رأفتك امح معاصي ... قلباً نقياً اخلف فيَّ يا الله وروحاً مستقيماً جدد في داخلي" (51: 4و 1و 10) "والآن ماذا انتظرت يارب؟ رجائي فيك هو" (39: 7) - "لأن عندك ينبوع الحياة. بنورك نرى نوراً" (36: 9)، "ارفع علينا نور وجهك يا رب" (4: 6) - "سلم للرب طريقك" (37: 5) - "الق على الرب همك (55: 22) - "احفظني مثل حدقة العين، بظل جناحيك استرني" (17: 8) - "عرّفني يارب نهايتي ومقدار أيامي كم هي، فأعلم كيف أنا زائل" (39: 4) - في يدك أستودع روحي. فديتني يارب إله الحق (31: 5) - "مبارك الرب الله إله إسرائيل الصانع العجائب وحده. ومبارك اسم مجده إلى الدهر، ولتمتلئ الأرض كلها من مجده. آمين ثم آمين" (72: 18، 19). ولما كانت المزامير تعبدية أساساً، فإنها تسمو بفكر العابد إلى الله، وعلى هذا فسوف تبقى طالما كان هناك ما يدفع الناس إلى التسبيح والصلاة. وكان معلمو اليهود يقولون: "مع أن جميع التقدمات سوف تبطل في المستقبل، إلا أن تقدمة التسبيح لن تتوقف. ومع أن جميع الصلوات ستتوقف فإن الشكر لن يتوقف". وفي الوقت ذاته فإن المزامير لا تكفي وحدها للتعبير عن التسبيح المسيحي، كما أن العهد القديم لا يكفي كقاعدة عامة للإيمان. والكنيسة ليست بحاجة إلى ترنيمة موسى فحسب، بل إلى تسبحة الحمل أيضاً.   

 

 

 

  سِفْرُ اَلْمَزَامِيرُ

 

مقدمة في سفر المزامير

كلمة "مزمور" هي ببساطة ترجمة للكلمة اليونانية "psalmoi"، وهي بدورها ترجمة للكمة العبرية "mizmor". والكلمة في صيغة المفرد كانت تعني أساسًا صوت الأصابع وهي تضرب آلة موسيقية وترية، صارت فيما بعد تعني صوت القيثارة، وأخيرًا اُستخدمت لتعني غناء نشيد على القيثارة[1].

الاسم العبري لهذا الكتاب هو "سفر تهليم" أي "كتاب التهليلات أو التسابيح". فسواء كان الإنسان فرحًا أو حزينًا، متحيرًا أو واثقًا، القصد من هذه الأغاني هو النشيد والهتاف بمجد الله. إنها تقودنا إلى المقادس حيث يتربع الله على تسبيحات شعبه كعرش له (مز 22: 3).

بينما يعطينا سفر أيوب ردًا على السؤلين الآتيين: لماذا توجد الضيقات في حياتنا؟ وكيف نعالج مشكلة الألم والمعاناة، يقدم لنا سفر المزامير بدوره ردًا على سؤالين آخرين: كيف نعبد الله في عالم شرير؟ وكيف تبقى أنقياء ونحن نُضطهد. في أيوب يتعرف المرء على نفسه، بينما يتعلم في سفر المزامير أن يعرف الله[2] وأن يكون في التصاق وثيق به.

كلمة إسترشادية (مفتاح السفر) :

الكلمات التي تُعتبر مفتاحًا للسفر هي: "ثقة، تسبيح، فرح، رحمة"؛ تتكرر هذه الكلمات مئات المرات في هذا السفر.

تعلمنا المزامير كيف نفرح واثقين في الله، وكيف نسبحه بكلمات أوحى بها الروح القدس.

المزامير والكنيسة المتهللة :

لكي نفهم دور سفر المزامير في حياة الكنيسة نقتبس كلمات Mircea Eliade: [يمكن أن يُقال بحق إن العبرانيين هم أول من أكتشفوا مغزى التاريخ كظهور إلهي[3]]. فقد اكتشفوا أن الله ليس فقط مصدر وجود الإنسان بل هو أيضًا مصد وجود شعبه. ففي مصر خلق شعبًا من عدم، وخلصهم من العبودية. ودخل معهم في ميثاق. كان لتاريخهم كيانًا خلال شركته معه، إذ رافقهم في البرية، ودخل معهم أرض الموعد وأقام لهم الملك التقي الأول (داود) كملكه هو. أمام هذا كله لم يقف الشعب صامتًا، بل رفعوا أصوات الهتاف والتسبيح؛ وفي وقت الضيق في شجاعة أثاروا أسئلة وقدموا له شكواهم، فقد اختارهم ليدخلوا معه في حوار أفضل أمثلة لهذه المعاملات (والحوار بين الله والإنسان) نجدها في سفر المزامير[4].

أما بالنسبة للكنيسة المسيحية فهي في حقيقتها جماعة تسبيح وترتيل، وُلدت كما في أنشودة مفرحة. إنجيلها (بشارة مفرحة) يأتي ومعه على مسرح التاريخ خورسًا من التسابيح والتماجيد لله[5]. فالكرازة بالبشارة المفرحة (الإنجيل) في العصر الرسولي لم تقم على نظرة لاهوتية جافة، مقدمة بطريقة باردة منعزلة عن الحياة الشخصية للمؤمن، إنما اُستقبلت بقلوب ملتهبه تتحرك في خبرة الفرح الأخَّاذ الذي يسبي العقل (أع 2: 1-13، 47؛ 3: 8؛ 5: 41، 42؛ 8: 39؛ 13: 52). حقًا إن ملكوت الله هو فرح في الروح القدس (رو 4: 17)[6]!

في السيد المسيح نكتشف الكنيسة بكونها صورة السماء وملكوت الله المملوء فرحًا. يريد الله لشعبه أن يمارس حياة الفرح فيّه، كعلامة التمتع بالحياة الداخلية المقامة في المكسيح وكعربون الشركة في السمويات عينها. تعكس المزامير هذا الجانب السماوي لوجودنا. إن التسبيح بالمزامير يجعلنا مساوين للملائكة في الكرامة. إنها توحدنا بهم. ويكتب ماذا يمكن أن يكون أكثر مسرة وغبطة للإنسان من أن يتشبه بالملائكة في ترنمه بالتسابيح، فيبتدئ يومه بالصلاة والتسبيح وتمجيد الخالق بالترانيم والأغاني؟!وجاء في التقليد الحاخامي أنه قد عُلقت قيثارة على مضطع داود[8]  (أي ينهي يومه كما يبدأ بالعزف عليها مسبحًا الله قبل نومه وعند استيقاضه).

يقول William Plumer: [تُتلى (المزامير) وتتكرر تلاوتها وتُسبح ويُغنى بها وتدرس وتستخدم في سكب الدموع وأثناء الفرح، وتُفسر كما تُحب ويُمجد بها (الله) وذلك بواسطة شعب الله عبر آلاف السنوات].

وجد المسيحيون واليهود على السواء – عبر القرون – في كلمات المزامير القوة الروحية ولغة التسبيح في آلامهم كما في انتصارتهم. وُضع كثير من المزامير لاستخدامها في العبادة في الهيكل (مز 24، 118، 134، 145). في الكنيسة الأولى كانت مزامير العهد القديم تتلى بنظرة مسيحية بكونها تصويرًا مسبقًا ونبوات عن السيد المسيح، كما قامت الصلوات الأولى التي رفعتها الكنيسة الأولى في سفر الأعمال على المزامير (أع 4: 24-30).

يسجل الكتاب المقدس الكثير من التسابيح والأناشيد أو المزامير التي تغنى بها شعب الله أو ترنم بها أشخاص؛ من أمثلة ذلك: تسبحة لامك (تك 4: 23-24)؛ تسبحة مريم أو موسى النبي (خر 15)؛ تسبحة البئر (عد 21: 17-18)؛ تسبحة دبورة (قض 5)؛ تسبحة حنة (1 صم 2)؛ تسبحة يونان (يونان 2)؛ تسبحة حزقيال (إش 38: 10-20)؛ تسابيح إشعياء (25: 1-12؛ 26: 1-20)؛ تسبحة الثلاثة فتية (دا)؛ مزمور زكريا (لو 1: 68-79)؛ المجدلة  للقديسة مريم العذراء (لو 1: 55)؛ البركة لزكريا (لو 2: 67-79)؛ المجدلة العلوية للملائكة (لو 2: 13-14)؛ تسبحة الانطلاق  لسمعان الشيخ (لو 3: 28: 32)؛ تسابيح القديس بولس (أف 5: 14؛ 1 تي 3: 16؛ في 2: 6-11؛ كو 1: 15-20؛ عب 1: 3)، تسابيح القديس بطرس (1 بط 1: 18-21؛ 2: 21-25؛ 3: 18-21)؛ تسبحة الأربعة مخلوقات الحية (رؤ 4: 8)، تسبحة الأربعة وعشرين قسيسًا (رؤ 4: 11)، الترنيمة الجديدة (رؤ 5: 9-10) الخ... بجانب هذه التسابيح وغيرها الواردة في الكتاب المقدس يوجد سفران مخصصان للتسابيح، هما المزامير ونشيد الأناشيد.

                 التسبيح بالمزامير لشفاء النفس[9].

 

       أي كائن له القوى الخمس يلحق به الخزي إن لم يبدأ نهاره بمزمور، فإنه حتى أصغر الطيور تبدأ يومها وتنهيه بتراتيل عذبة في عبارة مقدسة[10]!

 

       معظم الناس لا يعرفون شيئًا عن الأسفار الأخرى، أما المزامير فيكررون تلاوتها في المنازل والشوارع والأسواق، هؤلاء الذين يحفظونها عن ظهر قلب، ويشعرون بالقوة المريحة التي تكمن في تسابيحها المقدسة[11].

                 المزامير هي قصائد شعرنا، أغاني حبنا، هي مرعانا وتدبيرنا.

                 يقول أحد القديسين: ليكن تسبيح المزامير مستمرًا، فإننا إذ نذكر إسم الله تهرب الشياطين[12].

 

وضعوا السفر :

معظم المزامير أُوحى بها إلى داود الراعي والجندي، الملك والنبي؛ فقد كان يلعب بالقيثارة (1 صم 16: 18-23؛ 2 صم 6: 5). دُعى "مرنم إسرائيل الحلو" (2 صم 23: 1)؛ كانت له موهبة فائقة في وضع الشعر (2 صم 1: 19-27؛ 3: 33 الخ؛ 22: 1-51؛ 23: 1-7)، وكان عاشقًا للصلوات الليتورجية الجماعية (2 صم 6: 5، 15 الخ). نظم داود خدمة التسبيح في المقدسة (الخيمة المقدسة) (1 أي 6: 31؛ 16: 7؛ 25: 1؛ غر 3: 10؛ نح 12: 24، 36، 45-46؛ عا 6: 5).

نُسب 24 مزمرًا إلى آساف ربما كان "آساف" لقبًا لقادة الموسيقيين أو لمنظمي الخورس في أيام داود وسليمان (1 أي 16: 4-5؛ 2 أي 5: 12)، وإلى أبناء قورح (وهي عائلة من حارسي الأبواب الرسميين ومن الموسيقيين، ربما كانوا تلاميذ قورح وليس بالضرورة من عائلته)، وإلى هيمان وإيثان. هذه المزامير الأربعة وعشرون تُصنف معًا كمجموعة واحدة بطريقة لائقة لأن واضعيها قد ارتبطوا معًا في خدمة التسبيح التي أسسها داود.

ربما كتب موسى المزمورين 90، 100؛ وربما كتب سليمان أيضًا مزمورًا أو إثنين.

أما بقية المزامير فهي مجهولة المؤلف، تسمى بالمزامير "اليتيمة". يُعتقد أن داود النبي كتب بعضها.

لماذا يُنسب سفر المزامير إلى داود؟

بالرغم من أن 73 مزمورًا فقط من 150 مزمورًا (+ المزمور 151 في الترجمة السبعينية LXX) هي التي تنسب صراحة إلى داود، لكن اتجهت النظرة العامة إلى إعتبار داود هو واضع كل سفر المزامير؛ لماذا؟

1. يقول B. Anderson: [تعكس هذه النظرة بلا شك اقتناع الجماعة بإن داود هو المسيح الممسوح، والملك المثالي الذي به يُعرف الشعر عندما يتقدمون للعبادة أمام الله، ونموذج للملك الآتي الذي يحقق رجاء إسرائيل، وذلك كما جاء بوضوح في أخبار الأيام الأول والثاني[13]].

2. في أثناء حكم داود أصبحت أورشليم مركز العبادة للأمة الجديدة. وساهم سليمان من بعده بالأكثر في مركزية صهيون ببناء الهيكل العظيم فيها. لقد شعر الناس بجاذبية شديدة نحو أورشليم لعبادة الرب، ليس فقط بتقديم الذبائح وإنما أيضًا بتسبيح المزامير لله كتقدمة محرقات روحية. وعندما عاد المسبيون من بابل بعد خراب أورشليم، كان فكرهم الأول منصبًا على بناء الهيكل، وذلك لتحقيق وجودهم كجماعة عابدة مصلية في أورشليم.

يرى كثير من العلماء أن سفر المزامير قد أخذ شكله النهائي على يد المسئولين عن الهيكل الثاني، لكن معظمها تعكس العبادة الرسمية لعصر ما قبل السبي[14].

يقول L. Sabouirn: [إن كانت المزامير متصلة أساسًا بالعبادة الذبائحية فإن سفر المزامير قديم قدم العبادة الذبائحية نفسها[15]].

خصائص السفر :

1. هذا الكتاب أصلاً هو سفر التسبيح لشعب الله. وضعت بعض المزامير لاستخدامها الليتورجي في الهيكل، وبعضها من أجل الحياة الخاصة الشخصية وإن كانت الأخيرة تُستخدم أيضًا في العبادة الجماعية. يقول Brevard S. Chids: [تشكلت الحياة الدينية اليهودية – الجماعية والخاصة – منذ البداية بواسطة مزامير الكتاب المقدس. فيظهر سفر المزامير العبري بجلاء في كتاب الصلوات وفي المدراشيم وفي طقوس العبادة في المجمع[16]].

يعتقد بعض العلماء أنه لم يُقصد بسفر المزامير استخدامها في العبادة الهيكلية، وحجتهم في هذا أن ما يحمله السفر من عمق في الروحانية يتنافى مع هذه النظرة؛ إذ يعتقدون أن الروحانية مرتبطة بالعبادة الفردية وحدها. وقد سبق لي مناقشة هذا الموضوع (العبادة الجماعية والروحانية) في كتاب: "المسيح في سفر الأفخارستيا"، حيث قلت إن العبادة الجماعية الكنسية المبكرة لم تكن منفصلة عن العبادة الشخصية. فالمؤمن يمارس نوعًا واحدًا من العبادة أينما وجد، سواء في الكنيسة أو في مخدعه! يمارس الصلة الشخصية مع الله حتى أثناء العبادة الجماعية، ويصلي كعضو في الكنيسة المقدسة حتى وهو في مخدعه. هذا الإتجاه الإنجيلي اختبره الناس قديمًا. وكما يقول B. w. Anderson: [من أكبر الصعوبات التي تعوق فهم المزامير هي الفردية الحديثة التي تفترض أن العبادة أمر شخصي بين الفرد والله، وأنه يمكن الوصول إلى الله بعيدًا عن الوسائل المرسومة للعبادة الجماعية. من هذا المنطلق كانت الخطوة الأولى هي تقسيم المزامير إلى مزامير تعكس العبادة الجماعية وأخرى تعكس التقوى الشخصية. هذا التناقض بين الفرد والجماعة غريب تمامًا عن الإيمان الإسرائيلي المرتبط بالميثاق، والذي بمقتضاه يُنتسب الفرد إلى الله كعضو في الجماعة... وبحسب إيمان إسرائيل فإن يهوه – الجالس على العرش من تسبيحات شعبه – يكون حاضرًا عندما تتعبد الجماعة معًا في الهيكل في الأيام المقدسة أو الأعياد. يسبح الفرد الله مع الجماعة المتعبدة، قائلاً: "عظموا يهوه معي... وانمجد اسمه معًا" (مز 34: 3). عندما تُستخدم الضمائرنا "أنا" و "نحن" كما في مزمور الراعي المعروف (مز 23) يلزمنا التفكير في الجماعة كلها مجتمعة معًا لتُعبر عن إيمانها[17]].

يُعتبر سفر المزامير هو سفر الصلاة والتسبيح للكنيسة المسيحية حتى اليوم، لأنه يعبر عن اختبارات شعب الله في كل العصور. كما يقول الأسقف Weiser: [منذ بداية المسيحية (1 كو 14: 15، 26؛ أف 5: 19) وحتى العصر الحاضر تخلق العبادة الجماعية علاقة خاصة وقوية بين الجماعة المتعبدة والمزامير، هذه العلاقة مستمرة ونامية. لكن هذا لا ينفي أهمية سفر المزامير للاستخدام المسيحي (الشخصي). فبجانب استخدامها في العبادة الجماعية تستخدم أيضًا كوسيلة لبناء النفس الشخصي، وكأساس للعبادة العائلية، وككتاب للعزاء وكتاب للصلاة وكدليل يرشد إلى الله في أوقات الفرح وأوقات الضيق على السواء[18]].

2. سفر المزامير هو كتاب لكل من هم في عوز: للمريض والمتألم، للفقير والمحتاج، للسجين والمسبي، لمن هو في شدة أو تحت اضطهاد.

تعبِّر المزامير عن حياة الصلاة المتوازنة بين رفع الشكر لله والتضرع إليه من أجل المساعدة. جميعها تنطق بالمشاعر الداخلية النابعة عن القلب البشري في كل عصر. كل مزمور هو تعبير مباشر عن إدراك النفس لله، ومرآة خلالها يُعاين كل إنسان مشاعر نفسه، ويعتبرها قصته الشخصية، مشيرًا إلى أسئلة الخاصة به المحيرة وإجابات الله عليها.

يقول Dermot Connolly: [مما يجدر ملاحظته أن الصلاة أصيلة ودفينة في حياة شعب الله وخبراتهم: في أفراحهم وأحزانهم، في تاريخهم وعبادتهم، في وقت الخطر أو الخلاص، في المرض، في الطفولة والشيخوخة، في السبي وزيارة (أورشليم)، في العزلة والصداقة. لاحظ أيضًا الإشارات الجسدية (في المزامير): الأيادي والأقدام والحناجر والجلد والعيون، كلها تتعرض للمعاناه والأم، وتستخدم كأيماءات في الصلاة[19]].

3. تجري موضوعات نبوة عظيمة في سفر المزامير، إقتبس منها العهد الجديد؛ بل وربنا نفسه يقول: "لكي يتم ما هو مكتوب في ناموس موسى والأنبياء والمزامير" (لو 24: 44).

تعطي المزامير المسيانية تصويرًا كاملاً ودقيقًا عن ابن داود، ربنا يسوع المسيح. فهي تتنبأ عن المجيء الأول للسيد المسيح متضمًا تجسده وآلامه وموته ودفنه وقيامته وصعوده وجلوسه عن يمين الآب، ثم عن مجيئه الأخير، وأيضًا وظائفه النبوية والكهنوتية.

تجد معظم المزامير كمال تعبيرها ومعناها في حياة السيد المسيح وعلى شفتيه.

4. يبدو أن الآلات الموسيقية مثل الدفوف والأبواق والمزمار والقيثارات والطبول كانت تستخدم في العهد القديم؛ لكن كنيسة الإسكندرية تعتبر حنجرة الإنسان أجمل الآلات الموسيقية، لذلك تستخدم أحيانًا الدفوف مع أصوات خورس الشمامسة والشعب.

يطلب الله الآلات الموسيقية التي للقلب والعقل، التي يعزف عليها بروحه القدوس. يجب أن تفهم هذا عند الحديث عن القيثارة أو الدفوف عندما تصدر نغمًا (1 كو 3: 1)؛ هل تصدر عذوبة الصوت والغناء عن القيثارة أم عن الشخص الذي يلعب على الأوتار ويغني؟! وأنت يا من حباك الله بعطية العقل... يلزمك أن تتحقق بأن روح الله يعزف على لسان ويغني أناشيده بفمك[20]].

5. يرى كثير من الدارسين أن المزامير كانت تُنشد غالبًا بواسطة خورس محترف وجوقة موسيقية (أوركسترا) حاشدة، بينما يُؤمِّن الشعب بترتيل "آمين"، ويرددون مستجيبين بين الحين والآخر بعبارات خاصة بالمناسبا. يرد في سفر المزامير كثير من الكلمات الغامضة مثل "سلاه" التي تظهر 73 مرة، تدل إما على توجيهات للموسيقيين أو على توقيت بداية ترتيل توقيت المزمور. ويرى بعض الدارسين أن "سلاه" من المحتمل أن تكون مشتقة عن أصل عبري "selah" معناه: "الذي يرفع"، وذلك لكي يرتفع صوت الموسيقي أو الترنيم في توقيت محدد. وربما كان الشعب ينهض برفع يديه أو رأسه أو عينيه كعمل تعبدّي.

7. المزامير كقصائد شعرية مملؤة بالأسلوب الشعري، وتستخدم الآتي:

أ. التشبيه simile: مقارنة أشياء مختلفة عن بعضها البعض باستخدام "مثل" أو "ك" (مز 1؛ 3، 4؛ 11: 1؛ 19: 5).

ب. الاستعارة metaphor: استخدام كلمة لتدل على شيء ما أو فكرة ما بدلاً من كلمة أو فكرة أخرى، وذلك لكي توحي بالتشابه بينهما، دون استخدام "مثل" أو "ك" (مز 27: 1؛ 18: 2).

ج. المبالغة hyperbole: الغلو أو المبالغة في الوصف للحصول على تأثير معين (مز 6: 6).

د. التشخيص personification: إضفاء بعض الملامح الشخصية على أشياء بلا حياة (مز 9: 1، 35: 10).

هـ. المناجاه apostropge: توجيه الحديث إلى كائنات غير حية (مز 114: 5).

و. المجاز synecdoche: صورة بلاغية يقوم فيها الجزء مقام الكل أو الكل مقام الجزء (مز 91: 5).

يقول وليم بلامر Plumer: [تتشكل أشعار المزامير لا كما يحدث في أشعار اللغات الحديثة كاستجابة لمقاطع لغوية، وإنما كاستجابة للأفكار].

الأشكال الأدبية :

يمكن تقسيم المزامير حسب موضوعاتها أو رسالتها أو أسلوبها. ولكن الأنماظ الرئيسية للمزامير في هذا السفر هي: مزامير المراثي أو التضرعات، ومزامير الشكر، ومزامير التسابيح.

       سأوضح لك المناسبات المختلفة للصلاة: فهناك الابتهال، والشكر والتسبيح. فالابتهال هو إن سأل الإنسان الرحمة عن خطاياه، وفي الشكر تقدم لأبيك الذي في السماء التشكرات، بينما في التسبيح تمجد الله على أعماله. حين تكون في ضيق إرفع ابتهالاً، وحينما تكون متمتعًا بكل خيرات يلزمك أن تقدم للواهب شكرًا، وعندما يبتهج عقلك إرفع تسبيحًا. قدم كل هذه الصلوات لله بإفراز[21].

القديس أفراهات

       يُقدم التضرع بواسطة إنسان في عوز إلى شيء ما...؛ أما الصلاة مقترنة بالتسبيح فتُقدم بواسطة الإنسان الذي يطلب بطريقة أكثر وقارًا أمورًا أعظم؛ والتشفع هو التماس إلى الله يقدمه شخص له ثقة أعظم... الشكر هو صلاة تحمل اعترافًا لله من أجل أفضاله التي وهبنا إياها[22]...

العلامة أوريجانوس

يضع الدارسون تصنيفات أخرى متنوعة، ويلاحظ أن كثيرًا من المزامير لها ملامح أكثر من تصنيف من المجموعات التالية:

1. مزامير تعليمية :

أ. أقصد بالمزامير التعليمية "المزامير التهذيبية didactic" البناءة واللاهوتية. من الصعب الفصل بين النوعين الأخيرين (مامير للبناء العملي أو التهذيب والمزامير اللاهوتية)، فكلا النوعين يصوران الحكمة السماوية واللاهوت. يركز النوعان على "الحياة" الواحدة التي يلزمنا أن نقتنيها كأبناء لله، لكي نصير على صورته وكمثاله.

كل المؤمنين، خاصة القادة، يحتاجون إلى الحكمة، وكما يقولCarroll Stuhlmueller:

[ارتبطت الحكمة منذ وقت مبكر جدًا بالملوكية في إسرائيل، (فقد جاء في ختام (1 مل 4: 29-34) "وكانوا يأتون من جميع الشعوب ليسمعوا حكمة سليمان من جميع ملوك الأرض الذين سمعوا بحكمته"). مثلها مثل البلدان الأخرى إذ كانت المدارس النهائية لأبناء الأشراف الشباب تُقام في العاصمة الملوكية؛ وفي عصر ما بعد السبي التزمت المجامع بالخدمة كأماكن للعبادة والتعليم معًا (تعليم الحكمة). يبحث أدب الحكمة في نظام الحياة المستقرة المتناغم؛ إذ تقف الحكمة ضد الفوضى والعنف. فبينما تصور مزامير التسابيح – خاصة تلك التي تستمد غايتها من عمل الله الإبداعي في الكون – يهوه بكونه الغالب العظيم للبحر الغضوب ولعواصف الشتاء الثائرة (مز 29؛ 89: 9-13)، تجد الحكمة نفسها في حضرة الخالق "كنت عنده صانعًا... كنت كل يوم لذته، فرحه دائمًا قدامه" (أم 8: 30)!! بالرغم من هذا الاتجاه التأملي العقلاني إلا أن الحكمة تحوي على الدوام سرًا نهائيًا، محفوظًا خفية في خطة (نظام) الله. وفي أمثال (8: 22-31) نجد الحكمة مستقرة مع الرب قبل الخليقة. نفس الأمر نجده في سيراخ أصحاح 24. هذه النظره السرية تظهر اتجاهات عقلانية في المزمور 139: "لأنه قبل أن توجد كلمة في لساني ألا وأنت يارب عرفتها كلها... عجيبة هذه المعرفة فوقي ارتفعت لا أستطيع أقتناءها"[23]].

يقول العلامة أوريجاوس: [بما أن (المزامير) هي صلوات وضعها الروح ونطق بها بالحقيقة، لذا فهي ممتلئة بتعاليم حكمة الله، حتى يمكن القول عما احتوته من تعاليم: "من هو حكيم حتى يفهم الأمور وفهيم حتى يعرفها؟!" (هوشع 14: 9)[24]].

يقول القديس هيبوليتس الروماني: [إن داود قدم لليهود طابعًا جديدًا من مزامير التسبيح، خلالها أبرز تعاليم كثيرة تخطت ناموس موسى]. كما يقول: [يحوي كتاب المزامير تعاليم جديدة تخطت ناموس موسى وكتاباته. إنها كتاب التعليم الثاني[25]].

أعلن القديس باسيليوس الكبير أثناء تعليقه على المزمور الأول: [كتاب المزمير حاوي كل اللاهوت].

ب. لم تكن الحكمة واللاهوت والعبادة تنفصل عن بعضها البعض؛ لذلك كان المجمع اليهودي ملتزمًا أن يعلم الشعب لا الحكمة وحدها وإنما يعلمها العبادة أيضًا.

ج. تسمى بعض هذه المزامير "مزامير التوراة"، إذ تتأمل في التوراة وتظهر البهجة بها (مز 1، 19، 119). ومن أهم ما تؤكده هذه المزامير هو أن دراسة التوراة تجعل من الإنسان حكيمًا ومطوبًا. تجلت هذه الفكرة لتسيطر على المزمور الأول فوق كل فكرة، هذا الذي يُعتبر مقدمة لسفر المزامير ككل.

د. يقدم سفر المزامير إجابة صريحة للعديد من الأسئلة التي تثور في الذهن البشري.

هـ. التعاليم الرئيسية الواردة في سفر المزامير هي:

* الله: يتمركز إهتمام المرتلين في الله نفسه، خاصة بالنسبة لمزامير الشكر. ففي مركز كل مزمور نرى حضرة الرب (إله الكنيسة)[26] وسط شعبه المقدس كما في قلب المؤمن التقي. لقد اعتاد المرتلون أن يتحدثوا مع الله أكثر من حديثهم عنه، فهم يكشفون عنه خلال حديثهم غير المنقطع معه. إنهم يسبحون الله كخالق ومخلص معًا، ويطلبون منه أن يخلص شعبه ويدافع عنهم ويعينهم، صانعًا هذا مع البرار أعضاء كنيسته. إنهم يمجدون الموضع الذي يتجلى الله فيه حيث يسكن وسط شعبه (كما في مزامير صهيون)، ويمجدون الوسائل التي يعلن بها نفسه (كما في مزامير التوراة).

خلال الصلوات والترنيم بالتسابيح نتعرف على الله بكونه رب الكنيسة أو الجماعة المقدسة، فندعوه: إله إسرائيل (الكنيسة هي إسرائيل الجديدة) (مز 68: 8)؛ قدوس إسرائيل (71: 2)، إله يعقوب (75: 9). في نفس الوقت يُنتسب الله إلى المؤمن على مستوى شخصي، إذ يدعوه: "مجدي ورافع رأسي" (3: 3) مِجَنّي (3: 3؛ 59: 11)، "صخرتي، حصني، خلاصي، غلهي، قوّتي، قرن خلاصي، برج خلاصي" (18: 2)، "راعيَّ" (23: 1)؛ "نوري وخلاصي" (27: 10)، "صخرتي القوية" (31: 20)، "معيني" (54: 4)، "ملجأي" (91: 2)؛ "برّي" (144: 2).

* الإنسان : يقدم سفر المزامير النظرة إلى الإنسان من زاويتين متكاملتين:

أ. يصور حياة الإنسان خلال استعارت كثيرة، فهي ليست إلا شبرًا (39: 6)، وعشبًا (103: 15-16)، وظلاً (144: 4؛ 109: 23)، وجرادًا (109: 23)، وحلمًا ونسمة ريح. الحياة الإنسانية مملؤة شقاءً وحزنًا (90: 10)، والمستقبل على الأرض غامض (39: 7)؛ في نفس الوقت في سفر المزامير نرى الإنسان قد خُلق لينعم بحياة مفرحة مطوّبة. حقًا في مزامير التضرعات (المراثي) يُصور الإنسان ككائن شقي عاجز، لكنه ينال خلاصًا من الشر باتكاله الكامل على الله. بهذا تخلق المزامير جوًا من الفرح والتعزية حتى وسط المتاعب والضيقات.

ب. في سفر المزامير يظهر الله كمن هو مهتم بالبشر وحدهم (مز 8)، خاصة بشعبه وبكل عضو منهم. فقد خلق الإنسان كسيد للخليقة (8: 6)، وافتداه ليقدسه ويجعله إلهًا وابنًا للعلي (82: 6). يتمجد الله بكرامة الإنسان ومجده.

إدراكنا لحقيقة أنفسنا، وبطلان الحياة الإنسانية، وهبات الله لنا، كل هذا يدفعنا ألا نستكبر بل نتضع فنصير قريبين من الله (138: 6)، حينئذ نقول: "المقيم المسكين من التراب؛ الرافع البائس من المزبلة، ليجلسه مع أشراف، مع أشراف شعبه" (113: 7-8). "ليس لنا يارب ليس لنا لكن لاسمك إعطِ مجدًا" (115: 1).

تؤكد المزامير وحدة الإنسان ككل، ففرح روحه يسند جسده ويقوبه.

* الأبرار والأشرار: (1، 5، 7، 9-12، 14، 15، 17، 24، 25، 32، 34، 36، 37، 50، 52، 53، 58، 73، 75، 84، 91، 92، 94، 112، 121، 125، 127، 128، 133): نجد في "مزامير التوراة" التضاد القاطع بين الأبرار والأشرار؛ وبين الحكيم والجاهل، بطريقة واضحة وبسيطة.

* ناموس الله (19، 119): تؤكد المزامير أهمية الحياة حسب مقاييس الناموس الإلهي وتبرز النتائج المباركة للطاعة للناموس والنتائج السيئة للعصيان[27].

يوجد مزموران مخصصان لمدح الناموس الإلهي (19، 119)، يعلنان أن وصايا الله ليست عبئًا ثقيلاً بل بالحري هي مصدر الحياة والعذوبة والشبع والغنى والاستنارة والفرح. (مز 119) يشبه أنشودة أو أغنية تناسب المؤمنين الروحيين في العهد الجديد كما في العهد القديم.

* واجبات الحكام (82، 191).

2. مزامير التكريس (التقوى) Devotional Psalms.

* الندامة التي تتنسم حزنًا عميقًا على خطية أُرتكبت. تعبّر بعض هذه المزامير "مراث جماعية" عن حزن جماعي شعبي بسبب الإحساس بخطية إرتكبتها الأمة ككل؛ وبعضها "مراثٍ شخصية".

مزامير التوبة السبعة: (6، 32، 38، 51، 102، 130، 143). يحوي المزمور 51 تصويرًا نموذجيًا للمراثي والتوبة.

[كُتبت مزامير التوبة السبعة كأمره، ووُضعت بطريقة يمكنه أن يراها وهو على فراشه. كان ينظر إليها ويقرأها أيام مرضه باكيًا ومتألمًا في أغلب الأحيان]. [28].

* الضيق الشديد (4، 5، 11، 28، 41، 55، 59، 64، 70، 109، 120، 140، 141، 143).

* الرغبة في العون (7، 17، 26، 35، 44، 60، 74، 79، 80، 83، 89، 94، 102، 129، 139).

3. مزامير لتسبيح والشكر Hymns of Praise and Psalms of Thanksgiving (الخاصة والجماعية) (33، 95، 100، 117، 145، 148، 149، 150).

يفصل بعض الدارسين بين مزامير التسبيح ومزامير الشكر، متطلعين إلى الأولى بكونها بسيطة في هيكلها، إذ هي دعوة إلى العبادة، وغالبًا ما يُستخدم إسم المخاطب: "سبحوا الرب يا جميع الشعوب" (117: 1)؛ أما مزامير الشكر فترتبط ارتباطًا وثيقًا بالمراثي، بمعنى أنها إعتراف بالخلاص من يد الأشرار.

يقول R. J. Clifford: [تعبير "الشكر" إلى حد ما يُضلل، ففي الكتاب المقدس إذ يقال "أشكروا" لا يعني القول "نشكرك". وينتهي الأمر، إنما يعني أن تخبر علانية بأن الخلاص يتحقق فعلاً، فيتعرف السامعون على يد يهوه ويقدمون له تسبيحًا[29]].

التسبحة هي أغنية تمجد عظمة الله المعلنة في أعماله الخاصة بالخلق (مزامير الخليقة) وأيضًا عبر التاريخ. المزامير التي من هذا النوع غالبًا ما تبدأ بأمر ودعوة نحو العبادة، عندئذ توضح أسباب التسبيح؛ غالبًا ما يمهد لها بكلمة "لأنه" KI، ويختتم المزمور أحيانًا بتجديد الدعوة نحو التسبيح، مرددًا صدى ما بدأ به. يمكن رؤية هيكل مزامير التسبيح هذا بوضوح في المزمور 117، أقصر مزمور في السفر[30].

يلتزم الشعب الواحد المقدس بالتسبيح ككل معًا، كما يلتزم كل عضو في الجماعة بذلك، سواء كان كاهنًا أو لاويًا أو من عامة الشعب، حتى الأطفال منهم. الخليقة السماوية وأيضًا الخليقة غير العاقلة تشترك في التسبيح. المسكونة كلها تنعم بالفرح خلال التسبيح لله.

يركز هذا الطابع من المزامير على الحياة والفرح (100: 2). فباسم الله ننال الفرح (10: 3)، ونحصل على مصدر العذوبة في قلوبنا كما في شفاهنا (100: 5). الرب هو الله الحيّ، يهب شعبه لا الحياة وحدها بل الحياة الجديدة المخلَّصة بما تحمله من كرامة وحنو وتقدير، فيأتي المزمور كأعظم ردّ فعل طبيعي مقدم لله الخالق والمخلص.

 خلال الترنم بالمزامير التسبيح يشتاق المؤمن أن يقدم نفسه بفرح ذبيحة حية لإلهه المحبوب لديه. يقول القديس بولس: "فأطلب إليكم أيها الإخوة برأفة الله أن تقدموا أجسادكم ذبيحة حية مقدسة مرضية عند الله عبادتكم العقلية" (رو 12: 1). ويحمل المرتل ذات الفكر، إذ يقول: "فأذبح في خيمته ذبائح الهتاف" (27: 6)، وأيضًا: "فلك أذبح ذبيحة حمد" (116: 17)، "لتستقم صلاتي كالبخور قدامك، ليكن رفع يديَّ كذبيحة مسائية" (141: 2).

                 إنني أعتبر الصلوات والتسابيح لله هي الذبائح الكاملة والمقبولة أمام الله، إن قدمها أناس ذو وقار[31].

أهم مزامير الشكر الخاصة هي (مز 18، 30، 32، 34، 41، 66، 92، 116، 118، 138).

4. المزامير المسيانية Messianic Psalms :

بالنسبة للمسيحيين الأوائل، كان السيد المسيح هو موضوع تمجيد كل مزمور. فقد صورت المزامير المسيانية السيد المسيح أو تنبأت عنه. ويُعتبر سفر المزامير هو أكثر الأسفار وضوحًا بعد إشعياء في التعبير عن النبوات الخاصة بالسيد المسيح ورسالته في كل العهد القديم. وقد ظلت معاني الكثير من المزامير غامضة حتى قدمت حياة ربنا يسوع المسيح المفتاح لمعانيها. نور العهد قد تحقق في المسيا، ليشرق هنا بنور أعظم بهاءًا[32]. يقول R. T. Boyd: [نجد (السيد المسيح) في الأناجيل قد ذهب ليصلي، أما في المزامير فنجد الصلاة نفسها التي قدمها؛ تخبرنا الأناجيل عن صلبه، بينما تعطينا المزامير استنارة وانفتاحًا على قلبه أثناء صلبه؛ تُظهر لنا الأناجيل أنه عاد إلى السماء عند أبيه وترينا المزامير إياه جالسًا مع الآب في السماء[33]].

اعتبر كثير من آباء الكنيسة الأولى غالبية المزامير مسيانية، أي تختص بالسيد المسيح. ويُعتبر داود نبيًا لأنه كتب الكثير من المزامير وهي تحتوي نبوات عن السيد المسيح. حقًا ينكر بعض اليهود لقب "نبي" بالنسبة لداود، لكن القديس بطرس دعاه هكذا بكل صراحة في أعمال الرسل (2: 30).

تصور المزامير المسيانية ربنا من زوايا أربعة:

أ. المسيح المتألم؛

ب. المسيح الملك؛

ج. ابن الإنسان، أي ابن داود؛

د. وابن الله، الله نفسه[34].

نقدم هنا المزامير المسيانية الهامة، هي:

مز 2: الملك المرفوض يقيم مملكته ويملك.

مز 8: الإنسان سيد الخليقة بالمسيح ابن الإنسان.

مز 16: قيامة السيد المسيح من الأموات.

مز 22، 69: آلام السيد المسيح وصلبه.

مز 23: عناية الراعي الصالح بخرافه الناطقة.

مز 24: رئيس الرعاة ملك المجد.

مز 40: المسيح المطيع.

مز 45: عروس المسيح الملكة، وعرشه الأبدي.

مز 68: 18 صعود السيد المسيح.

مز 72: مُلك المسيح المجيد والأبدي.

مز 80: الرجاء العظيم واشتهاء مجيء المسيا (80: 1-3؛ 89: 46، 49).

مز 89: تأكيد لا نهائية أسرة داود الملكية.

مز 97: الملك يملك!

مز 101: المسيح يحكم بالبر.

مز 110: لقبا المسيح الوظيفيين: الملك الأبدي والكاهن.

مز 118: تمجيد الحجر المرذول.

مز 132: الوارث الأبدي لعرش داود.

يرى القديس أغسطينوس أن السيد المسيح الذي يُحِّد الكنيسة بكونها جسده هو قلب المزامير، كما يقول: [يتحدث ربنا يسوع المسيح أحيانًا عن نفسه في شخصه هو بكونه رأسنا، وأحيانًا في شخص جسده أي عنا نحن كنيسته. لكنه يتكلم بصيغة المفرد لكي نفهم أن الرأس والجسد متكاملان ولا يمكن فصلهما، وذلك مثل الاتحاد الزيجي الذي قيل عنه: "ويكون الإثنان جسدًا واحدًا". فإن كنا نتعرف على شخصين في جسد واحد، هكذا بالمثل نتعرف نحن على المسيح وكنيسته في صوت واحد[35]].

يظهر Michael Gasnier أن المسيحيين الأوائل لم يروا السيد المسيح ممجدًا فقط في المزامير، وإنما وضعوا صلوات المزامير على شفتيه، مخاطبًا أبيه: يسبحه ويتضرع إليه ويسأل العفو عن خطايا البشرية؛ وبالتالي نحن نصلي معه ونوحّد أصواتنا مع صوته[36]. هو الذي يقدس شفاهنا، مستخدمًا إياها ليمتد بصلاته المقبولة في كل جسده، أي الكنيسة.

5. المزامير التاريخية Historical Psalms (78، 105، 106، 136).

تقص هذه المزامير تاريخ البشرية المسجل بأكثر تفصيل في أسفار الكتاب المقدس الأخرى ابتداءً من التكوين حتى يشوع، وذلك كأساس للتسبيح. ويروي تاريخ شعب الله كدافع ليعيننا ويُصلحنا من جهة إخلاصنا لله وحفظ العهد معه.

تذكرنا لتاريخ الكنيسة وتاريخ معاملات الله معنا على المستوى الشخصي يزودنا بالمادة التي بها نسبح الله. فباستعراض التاريخ ننال فكرة أفضل عن حقيقة أنفسنا وعمل الله معنا: من نحن؟ ما هي هوّيتنا؟ كيف يتعامل الله معنا؟ وما هي شخصية الله في تعاملنا؟ المغزى الحقيقي للتاريخ لا يمكن في سرد الوقائع التاريخية بدقة وفي تفصيل بقدر ما هو تمتع رؤية صادقة لأنفسنا ولله.

6. المزامير الليتورجية Liturgical Psalms (15، 24، 50، 75، 118، 20، 21، 135).

استخدام Gunkel هذا الاصطلاح ليشير إلى مجموعة من المزامير فيما بينها من جهة الطابع الأدبي، جُمعت معًا ليترنم بها خورس المرنمين في الهيكل. يقول Sabourin إن هناك مزامير واضح ضمنيًا أنها وُضعت لاستخدامها في العبادة الليتورجية، حتى المزامير الأخرى التي وضعت لمناسبات خاصة يُظن أنها اُستخدمت أيضًا بواسطة الجماعة. من أوضح الأمثلة على المزامير الليتورجية تلك الدعوة "ليتورجيات المداخل أو الأبواب" (والتي يدعوها Gunkel ليتروجيا التوراة) (مز 15، 24) (قارن إشعياء 33: 14-16).

وُضعت بعض المزامير الليتورجية من أجل استخدمها في مواكب الأعياد مثل (مز 24، 68، 118، 132)، هذه التي لا يمكن فهمها إلا على ضوء علاقتها بصورة الموكب نفسه وما يصحبه من أعمال ومناظر.

توجد في مزامير أخرى تلميحات إلى ما يمكن فهمه على أنها أعمال عبادة في العهد القديم التي ليس لها موضوع بعد اليوم في العهد الجديد الذي هو عهد النعمة الكاملة.

النية في العبادة (5: 7).

إيفاء النذر (7: 18؛ 22: 26، 50: 14؛ 56: 13؛ 61: 6-9؛ 65: 2؛ 66: 13؛ الخ، 76: 12؛ 116: 14، 18).

تقديم الذبائح (27: 6؛ 54: 8؛ 66: 15، 96: 8، 116: 17).

إنشاد تسابيح وسط الجماعة العظيمة (22: 23 الخ؛ 35: 18؛ 40: 11؛ 68: 27؛ 89: 6؛ 111: 1؛ 150: 1).

الطواف حول المذبح (26: 5؛ 43: 4).

الاشتراك في موكب ديني (42: 5؛ 68: 25 الخ؛ 118: 19-27).

تقدم الصلوات والذبائح المسائية (141: 2).

إتمام طقوس التطهير (51: 9).

نوال البركات أو النطق بها (في أغلب المزامير).

هذا بجانب الإشارات المتكررة إلى أورشليم والهيكل والمذبح وجبل الله ومسكن الله وموطئ قدميه والأعياد المقدسة، هكذا كله يدل على أنه بطريقة أو أخرى أن عددًا كبيرًا من المزامير نشأ أصلاً لأجل الخدمة الليتورجية.

7. مزامير التجليس Enthronement Psalms (29، 47، 93، 95-99).

ترتبط هذه المزامير بتلك المدعوة "مزامير صهيون"، والقائمة على الاعتقاد بأن صهيون هذه المدينة التي تذخر بالهيكل، موضع حضور يهوه وسط الشعب.

في الاحتفال ببدء العام الجديد يقترب الموكب الذي كان يحمل تابوت العهد إلى الهيكل وسط تسبيحات الشعب لله الملك.

تُظهر المزامير أن مركز التسبيح في العهد القديم هو إعلان الله عن نفسه وهو على عرشه. يُظهر جلاله (ملوكيته) على التابوت المقدس بكونه عرشه الخاص (الشاروبيم). هو أيضًا جالس على تسبيحات شعبه كعرش له. الله الذي يملأ مجده قدس الأقداس في الهيكل – إذا ما تذكرنا رؤية إشعياء – جالس على عرشه مرتفعًا في الأعالي كملك وخالق للكل وكمحارب عظيم يغلب من يقاوم سلطانه الجامع.

8. المزامير الملوكية Royal Psalms

يقوم هذا التصنيف على أساس المحتوى وليس على أساس الخصائص الأدبية، ففي الواقع يمكن أن نجد بعض المراثي أو التشكرات، ولكن كل هذه المزامير تخص الملك. فقد تحمل ذكرى لبعض أحداث تمس خبرة الملك، مثل تتويجه وزواجه وانتصار جيشه وما إلى ذلك.

هذه المزامير تتنبأ عن السيد المسيح كملك يملك على قلوب مُؤمنيه ويقبلهم كعروس سماوية تشاركه أمجاده، ويمنحهم النصر على الشر مثل (مز 2، 18، 20، 21، 45، 72، 89، 101، 110، 132، 144). وعد الله عائلة داود بُملك أبدي، حيث يظهر الملك في هذه المزامير أبديًا، ويتسع نطاق ملكه إلى العالم كله، وأما علامة ملكه فهو السلام مع العدل الخ...

الملك الذي من نسل داود هو الوكيل المختار من الرب، ويكون قصره الملوكي محصنًا ضد الأعداء الذين يهددون (8: 2)، وقد وعد أن يدوم عرش داود أمام وجه كل الأعداء الواقفين ضد مسيح الرب (مز 24-26).

من هو هذا الملك الذي تشير إليه المزامير؟

أ. الله الآب ملك المسكونة كلها كخالق لها (93: 1-2)، الذي يملك بالحب على شعبه. السماء عينها هي قصره الملوكي ومسكنه في أورشليم كما في قلب المؤمن، ملكه يضم كل المسكونة (مز 47، 67، 100، 117، 87).

ب. المسيا: الملك المحارب واهب النصرة الروحية للمؤمنين به (مز 2، 18، 20، 21، 45، 72، 89، 101، 110، 132، 144). يملك بالصليب محطمًا مملكة الظلمة (كو 2: 14)، جاذبًا البشرية إلى السماء. كملك الملوك يهب مؤمنيه نعمة الملوكية (رؤ 1: 6)، واهبًا إياهم بره وقداسته وسماته وفرحه!

ج. داود الملك وكل الملوك خلفائه الذين يمثلون الجماعة المقدسة كما يمثلون الله نفسه والسيد المسيح.

د. المؤمنون كأعضاء في جسد يسوع المسيح ملك الملوك. يتسلمون السلطان على حياتهم الداخلية ضد الخطية وقوات الشر، فيعيشون كملوك أصحاب سلطان داخلي.

للتعرف على المزامير الملوكية راجع أيضًا تفسيرنا للمزمور الثاني.

9. مزامير المصاعد أو الدرجات Psalms of Acents or Degrees

هي تجميع صغير من المزامير (120-134)، كل مزمور منهم يُدعى "ترنيمة المصاعد". يبدو أنها كتيبًا صغيرًا يستخدمه الزائرون القادمون إلى أورشليم في الأعياد العظمى.

للتعرف على هذه المزامير راجع تفسيرنا لمزمور 120.

10. مزامير هاليل The Hallel Psalms

كانت مزامير هاليل (113-118) ترتيل أثناء أعياد الفصح والمظال والخمسين (البنطقستي) وتدشين الهيكل ورأس الشهور.

11. مزامير المناسبات Occasional Psalms

في النص العبري يخصص مز 92 ليوم خاص هو السبت؛ أما في النسخة السبعينية فتوجد مزامير مخصصة لأيام أخرى من أيام السبوع:

مز 24: اليوم الأول (الأحد).

مز 48: اليوم الثاني (الاثنين).

مز 94: اليوم الثالث (الثلاثاء).

مز 93: اليوم السادس (الجمعة).

وفي ترجمة الفولجاتا نجد مز 81 مخصصًا لليوم الخامس (الخميس).

وفي المشناه نجد مز 82 مخصصًا لليوم الثالث (الثلاثاء)، ومز 30 لتكريس الهيكل، ومز 100 لتقدمة الشكر.

12. مزامير التضرعات أو المراثي Supplication or Lament Psalms

هذا النوع من المزامير هو أكثر شيوعًا، إذ يصرخ المرتلون إلى الله بخصوص

احتياج شخصي أو تشفعًا في آخرين معتازين (مز 86)، أو من أجل ضيقات وآلام شخصية أو جماعية. ويلاحظ أنه بالرغم من الإلحاد النظري لم يكن معروفًا في العهد القديم لكن الشعب كثيرًا ما يُصاب بشعور بأن الله قد تخلى عنه وسط الضيق (الإلحاد العملي).

* كانت مزامير التضرعات الشخصية تثيرها ضيقات شخصية، مثل:

أ. الموت المبكر: اعتبره اليهود عقابًا عن خطية ما (مز 54: 24). الهاوية Shoal هي في نظرهم مكان الأموات، توجد تحت الأرض (مز 21: 29؛ 68: 15 الخ). يُشار إليها أحيانًا بالحفرة pit؛ ويُظن أنها موضع السكون (مز 114: 17) أو موضع الظلمة والنسيان (مز 87: 12) حيث لا يوجد تسبيح لله (مز 6: 6؛ 87: 10-13)، هناك يُقطع الأموات من الشركة مع الله (مز 87: 5).

ب. المرض (مز 37: 3، 4؛ 40: 5؛ 68: 27؛ 101: 11). كان الأهل والأصدقاء يتطلعون إلى المرض بكونه تأديبًا عن خطأ خفي (مز 37: 12).

ج. الاتهامات الكاذبة: غالبًا ما يُشار إليها مستخدمين المجاز: كالصيادين (مز 7: 16؛ 34: 7؛ 56: 7، 63: 6؛ 139: 6)، واللصوص (16: 9-12؛ 55: 7)، والأسود (7: 3؛ 16: 12؛ 56: 5)، والكلاب (58: 15) والحيَّات (57: 5، 6).

* التضرعات الجماعية أو المراثي الجماعية: أفضل مثل لها هو (مز 44). هذه المزامير هي صلوات تقدمها الجماعة ككل بسبب حدوث كارثة قومية مثل قيام حرب أو حلول هزيمة في معركة أو مجاعة أو قحط أو وباء أو غزو جراد. في اليوم المحدد يجتمع الشعب في الهيكل ليقدموا توبة وهم لابسين المسموح وواضعين رداءًا. يصف يوئيل النبي طقسًا من هذا النوع (يوئيل 1: 13، 14؛ 2: 15-17).

لكل نوع من المراثي – الشخصية والجماعية – هيكله الخاص به:

هيكل المرثاة الشخصية هو: استرحام الرب والتضرع إليه من أجل المساعدة؛ وصف للحاجة إليه، التماس للخلاص، الدافع للتمتع بالالتماس، اعتراف بالثقة في الله، نذر بتقديم الشكر.

أما هيكل المرثاة الجماعية فهو: استرجاع مراحم الرب السابقة، الاعتراف بالثقة في الله (بالرغم من وجود الكارثة إذ يحتفظ المرتل برجائه في الله أنه سيتدخل ويعمل)، وصف للحاجة، التماس بالبراءة (أو اعتراف بالخطأ). تأكيد الثقة في الله (كان هذا يعتبر عمل الكاهن لا مقدم التضرع أن يؤكد الثقة في الله)[37].

تسجيل كل مرثاة دراما من ثلاثة ممثلين: المرتل، الله، الأشار.

13. المزامير الأبجدية Alphabetic (Acrostic) Psalms

وهي من أكثر المزامير قدرة على إثارة الاهتمام والانتباه، وذلك بسبب تركيبها الأدبي. تستخدم هذه المزامير ترتيبًا يقوم على الحروف الأبجدية العبرية (مز 9، 10، 25، 34، 37، 111، 112، 119، 145).

14. مزامير التهليل لله Hallelujah Psalms

تستخدم هذه المزامير اصطلاح "Hallelujah" اختصارًا لـ "مجداً وتسبيحاً ليهوه"؛ ربما استخدم لكي يوضح استخدامها في العبادة الجماعية (مز 105، 106، 111-113، 115، 117، 135، 146-150).

15. مزامير إلوهيم Elohistic Psalms

نقصد بها تلك المزامير التي تستخدم اسم إلوهيم Elohim  اي الإله او الله مثل (مز 42-83). بعض المزامير الأخرى تستخدم اسم يهوه Jehovah بينما تستخدم بعضها أكثر من اسم واحد لله كما في (مز 19).

قديمًا كان الاعتقاد بأن كيان الإنسان يتمركز في اسمه أو اسمها ({اجع خر 3: 13، 14؛ قض 13: 17). فالاسم يعطي معنى ويضيف وجودًا كاملاً على حامله (تك 2: 19، 23)؛ وكان المرء يأخذ قوة من غيره عندما يعرف اسمه. في (مز 54: 1-3) يُقال: اللهمَّ بأسمك خلصني، وبقوتك أحكم لي. اسمع يا الله صلاتي، اصغِ إلى كلام فمي، لأن الغرباء قد قاموا عليّ وعتاةً طلبوا نفسي، لم يجعلوا الله أمامهم". فالإسم الإلهي يحمل قوة معجزية خاصة؛ وتتكرر عبارة "اسم يهوه" 100 مرة في 67 مزمورًا مختلفًا.

يقول Irving L. Benson في كتابه "المزمير"[38]: [إنه لأمر هام في دراستنا للمزامير أن نلاحظ دومًا كيف تعرَّف شخصية الله، سواء من جهة اسمه أو ما يُنسب إليه من سمات أو أعمال. توجد أربعة أسماء سائدة في المزامير هي: إل El (إلوهيم)، أودناي، يهوه، شاداي. وجاءت عدد مرات تكرار كل اسم في كل قسم من أقسام المزامير الخمسة كالآتي:

 

الاسم الإلهي العبري

قسم 1

قسم 2

قسم 3

قسم 4

قسم 5

إل (إلوهيم)

67

207

85

32

41

أدوناي

13

19

15

2

12

يهوه

277

31

43

101

226

شادي

 

1

1

1

 

 

 

يحوي العهد القديم عددًا من الأسماء لله والأسماء المركبة تكشف عن جوانب من شخصيته ومعاملاته مع البشر.

* إل أو إلوهيم: معناها قادر، قوي، سائد فوق الكل. في (عد 23: 32) يتحدث عن الله بكونه "إيل" الذي أخرج شعبه من مصر (تك 17: 1؛ 35: 11). يقول Nathan J. Stone: [يحوي اسم إلوهيم فكرة الخلق والقوة السائدة، أو القوة اللانهائية والسيادة. هذا يظهر بوضوح من الحقيقة بأن كلمة "إلوهيم" وحدها دون غيرها اُستخدمت في (تك 1: 1) إلى (تك 2: 4)، وقد تكررت 35 مرة[39]].

* يهوه: هذه الكلمة مشتقة من الفعل العبري الذي يعني "يكون Hava"، فتعني "الكائن". هذه الكلمة تشبه تمامًا الفعل العبري chavah ومعناه "يعيش to live" أو "حياة". بهذا يلزمنا أن نفكر في أن "يهوه" هو "الكائن القائم بنفسه"، الواحد الذي له الحياة في ذاته بالضرورة، له الوجود الدائم، أي واجب الوجود، الأبدي غير المتغير (مز 102: 27).

يقول Stone: [يمكن لليهودي أن يقول "الألوهيم" (أي يضع الـ للتعريف، الإله الحق، مقابل كل الآلهة الكاذبة؛ لكنه يقول "ال" يهوه عن الله، لأن اسم "يهوه" هو اسم الله الحقيقي وحده (لا يحتاج إلى تعريف)، إذ لا يوجد يهوه آخر. إنه يتحدث عن "الله الحيّ"، لكن ليس عن " يهوه الحي"، لأنه لا يفهم من "يهوه" إلا أنه هو "الحيّ" (لا يمكن نسبه حيّ ليهوه لأن الكلمة نفسها تحمل ذات المعنى)... بكونه يهوه هو إله الإعلان عن نفسه للخليقة القادرة أن تفهم اللانهائي وتدركه – الواحد اللائق... لإسم يهوه أهمية أبعد من ذلك بالنسبة لنا، وهي أنه يعلن عن ذاته بكونه الله إله السلوكيات والروحيات... فبينما اصطلاح إلوهيم يفترض حبه نحو كل الخليقة والمخلوقات كعمل يديه فإنه اصطلاح يهوه يعلن عن هذا الحب كأمر متوقف على تمتعنا بسمات سلوكية ورحية. بهذا المعنى فإن لقب يهوه كما لاحظنا قبلاً لم يظهر حتى التكوين (2: 4) (لأنه يمس معاملات الله مع الإنسان الروحي فيما يمس خلاصه الأمر الذي لم يكن بعد قد ظهر)].

الله هو يهوه الخاص بشعبه، وذلك من أجل خلاصه العظيم لهم؛ يُظهر لهم ذاته بكونهم قديسيه، وبكونه إله البر والقداسة.

بمعنى آخر إن كان إلوهيم يعني القدرة مع اهتمام الله بكل الخليقة فإن يهوه يعني وجود الله وسط شعبه يخلصهم ويقدسهم بكونه الشعب المقدس وبكونه القدوس وحده!

* إل شاداي El Shaddai: يظهر هذا الاسم أولاً مرتبطًا بإبراهيم في (تك 17: 1-2). وهو مشتق من كلمتين: "إل" وتعني قدرة وقوة وكلية القدرة والتسامي المطلق، فهو اسم مرتبط بالخلق كما رأينا. و"شاداي" ترتبط بكلمة "صدر breast"، إشارة إلى من يغذي ويعول ويشبع ويموّن. لهذا فإن اللقب يعني "القادر أن يشبع ويقوت ويغذي" أو "القادر الذي فيه الكفاية في ذاته، جزيل العطاء، مصدر كل بركة وامتلاء وإثمار".

* أدوناي Adonai: تعني "المالك"، الله الذي له السيادة والربوبية.

بمعنى آخر يمكننا القول بأن "اسم إلوهيم" يُنسب إل الله القدير؛ و "يهوه" إله البر والقداسة والحب والخلاص؛ و"الشاداي" القدير واهب العطايا والقوات والبركات والإثمار بفيض؛ و"أدوناي" تخص الله بكونه سيد كل الشعوب أرادوا أو لم يريدوا.

16. مزامير اللعنة The Imprecatory Psalms

يوجد أكثر من عشرين مزمورًا تستنزل اللعنات على الأشرار؛ لماذا؟

أ. يقول J. H. Raven: [بإن تعبيرات اللعنة ليس فردية (خاصة) إنما هي جماعية رسمية، فالمرتل يطلب عقاب أولئك الذين حطموا شعب الله، ملكوت الله المنظور، وهم بذلك أعداء الله (مز 139: 21-22). لم يدافع داود عن نفسه أمام أعدائه الذين يقاومونه شخصيًا، بل بالعكس كان يُظهر روحًا متسامحة بشكل واضح كما يظهر من تعامله مع شاول الملك وأهل بيته (1 صم 24؛ 26: 5-12؛ 2 صم 1: 17؛ 2: 5، 9). أما في هذه المزامير فهو يصلي إلى الله كي يعاقب أعداء الله ولا يقوم هو بهذا الدور.

ب. طلب المرتلون العدالة الإلهية وليس انتقامًا بشريًا ضد الظالمين والمستهترين بالحب الإلهي.

ج. يكره الله الخطية لكنه يحب الخاطئ. لم يكن في الفكر العبراني فصل قاطع بين الخاطي وخطيته. (فبابل ترمز إلى الكبرياء؛ وفرعون إلى الظلم، وأدوم إلى سفك الدماء الخ...).

د. يشعر المرتل كنبي أن أعداءه هم أعداء الله؛ فبروح النبوة تنبأ أنهم لا يستحقون الحياة، فما نطق به هو نبوة.

17. مزامير صهيون (الكنيسة) Psalms of Zion (the Church

دخولهم أورشليم – كما جاء في سفر المزامير – يشير إلى عناية الله نحو شعبه، إذ حقق لهم وعده. وقد جعل داود أورشليم عاصمته، ونقل إليها تابوت العهد؛ بعد ذلك بنى سليمان الهيكل هناك. لذلك توجد مزامير كثيرة مخصصة لصهيون مدينة الله والعاصمة الروحية للجنس البشري؛ ومزامير خاصة بالهيكل بكونه مسكن الله، وأخرى خاصة بتابوت العهد كممثل لله.

إعتاد الكثيرون أن يحجوا إلى المدينة المقدسة في الأعياد الكبرى، وكان عليهم أن يتلو مزامير معينة كجزء من طقس مقدس.

كانت كل الأحداث التي تمس المدينة والهيكل وتابوت العهد (مثل خلاص أورشليم من يد سنحاريب) لها معانيها الخاصة في حياة الشعب.

18. مزامير الخليقة Psalms of Creation

توجد بعض المزامير تسبح الله كخالق المسكونة. هذه التسابيح تمجد عظمة الرب وصلاحه وجلاله الملوكي. إذ يدهش المرتلون أمام قدرة الله المهوبة، مقدمين له الشكر من أجل ما قدمه للإنسان من منزلة وفي تدبيره الإلهي (مز 8، 19، 33، 104)[40].

أرقام المزامير Psalms Numbering

تحتوي بعض المزامير أنشودتين أو أكثر بينما تنقسم أنشودة ما إلى مزمورين أو أكثر. هذا هو السبب في اختلاف الترقيم بين النص العبري والترجمة السبعينية، ففي النص الأخير إنظم المزموران 9 و 10 في مزمور واحد، وهكذا أيضًا المزموران 114 و 115، بينما انقسم المزموران 116 و 147 كل منهما إلى مزمورين منفصلين.

 

النص العبري

الترجمة السبعينية

1-8

1-8

9-10

9

11-113

10-112

114-115

113

116

114-115

117-146

116-145

147

146-147

148-150

148-150

-

151

 

 

سفر المزامير والكتاب المقدس[41]

سفر المزامير: [خلاصة الكتب المقدسة كلها]؛  فهو [الكتاب المقدس داخل الكتاب المقدس]. [إن سفر المزامير هو الكنز العام لكل وصايا صالحة... صوت الكنيسة... الحاوي لكل اللاهوت]. [الشريعة تعلم، والتاريخ يروي أخبارًا، والنبوة تتنبأ، الإصلاح يلوم والسلوكيات تحث، أما كتاب المزامير فنجد فيه ثمار كل هذه، كما تجد فيه علاجًا لخلاص النفس. يستحق سفر المزامير أن يُدعى: تسبيحًا لله، مجدًا للإنسان، صوت الكنيسة، اعترافًا للإيمان في غاية النفع!]. هذا ما دعى البعض إلى تسميته: "الكتاب المقدس مصغرًا"، بينما يسمونه آخرون "العالم الصغير لكل العهد القديم".

بالحقيقة قُدمت مواضيع العهد القديم في المزامير تحت شكل صلاة. هذا أيضًا حقيقي فيما يتعلق بالحوادث الهامة الخاصة بتاريخ الخلاص من الخليقة إلى الخروج، من دخول كنعان إلى إعادة تجديد أورشليم، عندما نضج الرجاء في مجيء المسيا لتأسيس مملكة الله.

أفضل تعليق على المزامير أنها الكتاب المقدس نفسه دون أن يُستثنى منه العهد الجديد، فما هو غامض في المزامير ينظر إليه بمنظار جديد خلال الإنجيل.

سفر المزامير وأسفار موسى الخمسة The Psalms and the Pentateuch

يقول William Plumer: [أول ملاحظة لهيلاري (أسقف بواتيه) في مقدمته عن المزامير هي أن "سفر المزامير كتاب واحد وليس خمسة كتب". يشير هنا إلى أن بعض اليهود يقسمون المزامير إلى خمسة كتب، تطابق أسفر موسى الخمسة... مثل هذا التقسيم هو مجرد اختراع بشري، لا يقوم على أساس إلهي، ولا يقوم حتى على مجرد محتويات هذه الأغاني العجيبة. ففي (لو 20: 42) وفي (أع 1: 2) نقرأ عن كتاب المزامير، ولا نقرأ في أي موضع عن "أسفار المزامير"].

يرى كثير من الدارسين أن سفر المزامير نفسه يقدم في النص العبري دليلاً على تقسيمه إلى خمسة أقسام تبدأ على التوالي بالمزامير (1، 42، 73، 90، 107)، متمثلاً في ذلك ربما بأسفار موسى الخمسة، ينتهي كل قسم منها بذكصولوجية (تمجيد ختامي) (41: 14؛ 72: 19؛ 89: 52، 106: 48؛ 150: 6).

القسم الأول – يشبه سفر التكوين – معلنًا علاقة الله بالإنسان بصورة شخصية. الثاني – يشبه سفر الخروج – يعلن عن غيرة الله نحو فداء المؤمنين بكونهم شعبه الخاص. القسم الثالث – يشبه سفر اللاويين – يُظهر سكنى الروح القدس وسط شعبه لتقديسهم بكونه كنيسة مقدسة. القسم الرابع – يشبه سفر العدد – يعلن اهتمام الله بهم في برية هذا العالم ليقودهم إلى أرض الموعد وسط الآلام والضيقات. القسم الخامس – يشبه سفر التثنية – يكشف لنا عن الناموس أو كلمة الله كمنبع أو مصدر شفائنا الروحي وقداستنا وكفايتنا ومجدنا.

 

 

 

القسم

1

2

3

4

5

السفر المشابه له

تكوين

خروج

لاويين

عدد

تثنية

الموضوع

الإنسان والخلاص

الكنيسة والخلاص

الهيكل الجديد

الأرض الجديدة

كلمة الله

العلاقة مع الله

شخصية

جماعية

يحل الله فينا

يبارك أرضنا

عطاء الذات

واضع المزامير

داود

داود وقروح

آساف أساسًا

مجهول

داود أساسًا

زمن جمعها

داود

أثناء حكم حزقيال ويوشيا

عزرا ونحميا

 

 

يرى كثير من الباحثين أن العلاقة وثيقة بين كتب موسى الخمس وأقسام المزامير الخمسة، وذلك خلال دراستهم لنظام العبادة اليهودي القديم. فكمثال يقول A. Guilding: [إن اسم "الدورة الثلاثية" أُعطى للنظام الفلسطيني المبكر لقراءة كل أسفار موسى الخمسة أيام السبوت بالتوالي لمدة 3 سنوات قمرية. وقد قُسمت أسفار موسى الخمسة لهذا الغرض إلى أكثر من 150 قسمًا عرفت بالسيداريم Sedarim. على مرّ الأيام نمت عادة إضافة درس ثانٍ من الأنبياء عرف باسم الهافتارا haphtarah أو "العبارة الختامية". يبدو أيضًا أن المزامير كانت تُتلى على فترات ثلاث سنوات، خاصة وأن عدد المزامير يتناسب مع عدد السبوت خلال 3 سنوات قمرية، ويبدو أن ترتيب المزامير كان متأثرًا باعتبارات ليتورجية[42]].

القسم الأول: الإنسان والخلاص

1. تطويب الإنسان                                      [1].

2. سقوط الإنسان                                       [2-8].

3. عداوة الإنسان تصل إلى ذروتها في ضد المسيح  [9-15].

4. إصلاح الإنسان بالمسيا                             [16-41].

القسم الثاني: الكنيسة والخلاص

1. خراب إسرائيل         [42-49].

2. مخلص إسرائيل        [50-60].

3. خلاص إسرائيل        [61-72].

القسم الثالث: الهيكل الجديد

هنا يشار إلى الهيكل تقريبًا في كل مزمور: إبتداء من خرابه إلى إقامته وتكميل بنائه وبركته.

1. المقدس في علاقته بالإنسان     [73-83].

2. المقدس في علاقته بالرب        [84-89].

القسم الرابع: الأرض الجديدة

1. الأمم: ضياعهم وطلبهم          [90].

2. طلب الأمم للأرض الجديدة     [91-104].

3. توقع الأمم للأرض الجديدة      [100-105].

4. احتفال الأمم بالأرض الجديدة   [100-105].

* ختام: الأرض الجديدة والراحة   [106].

القسم الخامس: كلمة الله

1. خبرة الكلمة            [107-118].

2. عرض للكلمة          [119].

3. توقع لعمل الكلمة      [120-150][43].

إصطلاحات تشير إلى طبيعة المزامير :

"شير" Shir أو "سير" Sir (= أغية، تكررت 30 مرة)، عادة تصحبها موسيقى، يرى البعض أنها اغنية تعتمد على الصوت أكثر من الموسيقى.

"مزمور" mizmor (57 مرة)، يحتمل أنها تعني نشيدًا يصطحبه العزف على آلة وترية.

"ماسكيل" maskil (تكررت 13 مرة)، ربما تعني شعرًا تعليميًا (راجع مز 32، 47، 78)، لكنها وُجدت أيضًا في أشعار غير تعليمية. لذا يحتمل أنها تعني "شعر فني artistic Poem" أي شعر مرتبط بالفن (مز 47: 8، 2 أي 30: 21).

"مختام" mikhtam (تكررت 6 مرات) في المزامير (16، 56-60)؛ ربما تشير إلى معنى خفي (katam)، كما تترجم أيضًا "شعر ذهبي ketem" أو "جوهرة مذهّبة". وقد بذل البعض جهدًا لتفسيرها كمزمور ندامة[44].

"سيجايون" siggayon (مز 7: 1). يبدو الإسم متشابهًا للشيجو الآشوري Assyrian Shegu، وهي مزامير شكوى أو ندامة.

"تهليل" tehillah، وهي أنشودة تسبيح ذكرت مرة واحدة (مز 145). لكن نفس الاصطلاح ورد في صيغة المذكر الجمع لوصف كل مجموعة المزامير.

"للشكر" (مز 100): ربما تشير إلى ذبيحة الشكر (لا 7: 12؛ 22: 29)[45].

الإشارات الموسيقية :

تفسيرها غير سهل، لأننا لا نعرف إلا النذر القليل عن الموسيقى الإسرائيلية القديمة، لكن بصفة عامة تنتمي هذه الحواشي إلى مجموعتين:

المجموعة الأولى من الإشارات الموسيقية تشير إلى الآلات التي تصاحب الأصوات مثل "ضرب الأوتار" (مز 4، 6، 54، 61، 67، 76)، "مع آلات النفخ" (مز 5). كذلك "على الجتية" (مز 8، 81، 84) التي تشير إلى نوع من القيثارات (من جت؟) أو إلى نغمة صوت (امرأة ذات صوت الجت). "الهاسمينيت al hassminit" (مز 6، 12) أي "على الثمانية"، و "al alamot" (أي "حسب العذارى") وتعني مع أصوات سبرانو وأصوات منخفضة بالتتالي (1 أي 15: 20-21)، لكنها ربما تعني "مع قيثارة ذات ثمانية أوتار".

المجموعة الثانية من الإشارات الموسيقية ربما تشير إلى أناشيد مشهورة يُرتل على وزنها المزمور، مثل "لا تهلك" (مز 57، 58، 59، 75؛ أنظر إش 75: 8)؛ "على أيلة الصبح" (مز 22)، "على الحمامة البكماء بين الغرباء" (مز 56)؛ "على موت الابن" (مز 9)؛ "على السوسن" (مز 45، 69)، ربما تشير إلى أغنية شائعة تمجد الناموس بكونه كالسوسن.

أما اصطلاح "سلاه" الغامض، والذي يتكرر ظهوره في صلب المزمور في نهاية آية، فإنه تكرر 71 مرة في 39 مزمورًا، جاءت كلها في الأقسام الثلاثة الأولى للسفر ماعدا مرتين في (مز 140، 143). وتقال أثناء التسبيح إذ يسجد العابدون حتى الأرض مصلين، ويرى آخرون أن الاصطلاح يعني "ارتفاع" أصوات المرتلين أو يعني فاصلاً صامتًا للموسيقى[46].

سنعود إلى هذه الإشارة بأكثر توسع أثناء دراستنا للمزامير إن أذن الرب وعشنا.

ملاحظات :

1. إن أردنا أن نتفهم مزمورًا ما يلزمنا أن نحاول اكتشاف الظروف الخلفية أو الأحداث التي وراء المزمور.

2. يليق بنا أن ندرك أن المزامير هي تعبيرات عن مشاعر مقدسة، لا يفهمها إلا الذين يمارسون الحياة المقدسة.

افضل مؤهل لدراسة أي جزء من كلمة الله هو قبول عمل الروح القدس الساكن فينا، هذا الذي يلهب قلوبنا الباردة، واهبًا إيانا الفكر ومشاعر صادقة[47].

                 شكّل روحك بمشاعر المزمور...

إن كان المزمور ينفث روح صلاة صلِّ؛

إن كان مملوء تنهدًا تنهد أنت أيضًا؛

إن كان مفرحًا فأفرح أنت أيضًا؛

إن كان يشجع واهبًا رجاء، ترجى الله؛

إن كان يدعو إلى الخوف التَّقَوى، ارتعب أمام العظمة الإلهية؛ فإن كل الأشياء هنا تحمل مرآة تعكس سماتنا الحقيقية... دع قلبك يعمل ما تعنيه كلمات المزمور[48].

       لكي ننعم بهذا الكنز يلزمنا أن نتلو المزامير بذات الروح الذي به وُضعت، نتبناها في انفسنا بذات الطريقة كما لو أن كل واحد منها قد وضعها بنفسه، أو كما لو أن المرتل قد وجهها إلينا لاستعمالنا نحن، غير مكتفين بأنها قد تمت بواسطة النبي أو فيه، وإنما يكتشف كل منا دوره الذي يلزم أن يحققه خلال كلمات المرتل، بأن نثير في داخلنا ذات المشاعر التي نراها في داود أو غيره من المرتلين في ذاك الحين، فنحب حين نراه يحب، ونخاف إذ هو يخاف، ونرجو حين يرجو هو، ونسبح الله عندما يسبح هو، ونبكي على خطايانا وخطايا الآخرين حينما يبكي هو... نسر ونفرح بجمال المسيا والكنيسة عروسه... وأخيرًا إذ هو معلم يعلم وينصح ويمنع وبوجه البار يليق بكل أحد منا أن يفترضه متحدثًا إليه فيجيبه بطريقة لائقة تناسب تعليمات صادرة عن معلم كهذا[49].

 

عناوين المزامير قديمة قدم المزامير نفسها، تدخل بنا إلى فهم المزامير نفسها.   [عناوين المزامير هي المفتاح التي تفتح أبواب الفهم السليم لها].

2. في بعض الأحيان يوجه المرتل في مزمور واحد استيخون (مقطعًا) لله وآخر للجماعة أو لأصدقائه. أحيانًا يوجه للخليقة السمائية أو حتى الخليقة غير العاقلة، وإلى الأشرار أو إلى الشيطان كما إلى نفسه.

تحوي بعض المزامير حوارًا بين المرتل والجماعة، بقصد اظهار تعليم أو شهادة أو تقديم دعوة للجميع لمشاركته في الشكر والتسبيح لله.

3. المرتل أمين، صادق مع نفسه ومنفتح. متى كان سعيدًا عبّر عن سعادته؛ ومتى كان غاصبًا أو خائفًا أظهر ذلك. حتى إن شعر بغضب (عتاب) من جهة الله أعلن ذلك (مز 44: 47)،؛ لا يتظاهر بغير ما هو عليه!

4. يظن بعض الدارسين أن هناك تأثيرات أجنبية على سفر المزامير، خاصة من مصر القديمة وما بين النهرين، وذلك بسبب بعض التعبيرات المشتركة بين المزامير والأدب الديني القديم.

يقول R. E. Murphy: [كما هو الحال في كل أسئلة الأدب المقارن، يجب ألا يُضِلل الدارس لمجرد وجود تشابهات. فاستخدام نفس الكلمات لا يعني دائمًا ذات الأشياء (نفس المعنى) لأنها تتلون حسب الحضارة الخاصة بها أو بالوسط الديني الذي تُستخدم فيه، وعلى ذلك فإن الاختلافات الواضحة بين الديانات الإسرائيلية والمصرية والتي لمن هم بين النهرين يجب ألا نتجاهلها بسبب الرصيد المشترك لمفردات اللغة وأنماط التفكير... هذا ولابد من وجود مشابهات أساسية في خبرات البشر عند ملاقاتهم مع اللاهوت[50]].

يقول Sabourin بخصوص مصر: [عرف المصريون الحقيقيون إلهًا واحدًا قديرًا ديانًا ومدبرًا بعنايته. وفي مصر أيضًا كان الكتبة يُحثّون تلاميذهم على استقامة القلب (مز 7: 11) من أجل الله، الخفي والقريب. ويبدو إنه كانت لهم معرفة معينة بقيم خاصة بالحياة الداخلية: حلول الروح الإلهي في قلب المؤمن، الشوق نحو الله، التسليم لإرادته، معنى الصمت. هذا وقد عايشت عقيدة الوحدانية المنتشرة في مصر جنبًا إلى جنب مع تعدد الآلهة، بينما في إسرائيل فكانت معارضة الوثنية أمر لا يتوقف. في الوثنية الشرقية كانت النظرة إلى الخطية تقوم أساسًا على أنها دنس جسدي يمكن التطهر منها بطقوس سحرية، ويمكن طرد الأرواح الشريرة بالرقي والتعاويذ، كانوا أيضًا يعتقدون في الفال الذي يكشف عن المستقبل. هذا بالإضافة إلى الأساطير المعقدة التي تفسر أصل نظام العالم المادي أو تشويشه، كما يوجد نظام خاص بطقوس تمس الطبيعة لأجل بلوغ رفاهية الأمة. بعكس هذا كله تصور المزامير الخطية على أنها اعتداد على النظام السلوكي، وأن التوبة هي الطريق الوحيد لإزالتها، هذا وقد أدانت المزامير الوثنية وعبادة الأصنام، أما السحر فلم يُشر إليه قط[51]].

تستحق كلمات W. Von Soden, A., Falkenstein عن بابل أن نقتبسها: [المزامير أكثر تحررًا في شكلها (عن الأدب البابلي) وأكثر تنوعًا في مبناها. هناك اختلاف حاسم نابع عن ارتباط البابليين بتقاليدهم من ناحية وعن إيمان إسرائيل المشروط بالله الواحد... والخلاصة يمكننا أن نقول بأن أجمل الصلوات البابليين – بالرغم مما حملته من أفكار كثيرة – لا تصل قط إلى مستوى المزامير، إذ لم يُعط لشعرائهم أن يكرسوا أنفسهم لله تمامًا بلا تحفظ، هؤلاء الذين ظنوا أنهم يعرفون مشيئته. لذلك كان في قدرتهم في معظم الأحيان أن يعلنوا عن حقائق هامة، لكن ليس عن الحق ذاته[52]].

 

المزامير والليتورجيات القبطية

صلوات السواعي "الأجبية"

يقول بولس الرسول: "متى اجتمعتم فكل واحد منكم له مزمور..." (1 كو 14: 26).

استخدم المسيحيون المزامير في الكنيسة الأولى للصلاة أو بالحري للتسبيح، ليس فقط في العبادة الجماعية في الكنيسة وإنما أيضًا في العبادة الشخصية داخل المخدع، وأثناء السير في الطريق، وخلال ممارستها أعمالهم الخاصة وأثناء الاستحمام. لقد أدركوا أن المزامير هي من وحي الروح القدس قادرة أن ترفع القلب وتحفظ العقل محلقًا في السماء بفرح!

يقول دارس أمريكي: "الصلاة بمزمور كل يوم يطرد القلق خارجًا Praying a psalm a day keeps worry away".

ممارسة صلوات  أو على الأقل أجزاء منها يساعدنا على التمتع بالشركة مع مسيحنا:

صلاة باكر  = قيامة السيد المسيح.

الثالثـــة = حلول الروح القدس.

السادســة = الصلب.

التاسعــة  = موت السيد المسيح.

الغــروب = دفن السيد المسيح.

النـــوم  = نهاية حياتنا.

نصف الليل = ترقب مجيء المسيح الأخير.

 

 

 

 

الباب الأول

الإنسان والخلاص

[مز 1 – مز 41]

الله في حبه للإنسان يبدأ كتابه المقدس بالحديث عن خلقة العالم من أجل محبوبه الإنسان، ليقيمه سيدًا على الأرض، أو قل ملكًا صاحب سلطان، وكيل الله يحمل صورته وعلى مثاله، يمارس الحياة الفردوسية المطوّبة والمملؤة فرحًا، يجد شعبه في الله الذي لم يعوزه شيئًا. وينتهي الكتاب المقدس بسفر الرؤيا حيث نرى الإنسان ساكنًا في أورشليم العليا، مسكن الله مع الناس (رؤ 21: 3)، ينعم بشركة المجد الإلهي، ويشترك مع الملائكة في تسابيحهم. بنفس الروح يبدأ سفر المزامير – الكتاب المقدس مصغرًا – بالإنسان في حياة مطوّبة بكلمة الله العاملة فيه (مز 1: 2)، ليصعد به في نهاية السفر فيجد الإنسان نفسه يمارس الحياة الملائكية المتهللة خلال عمل الله الخلاصي.

هذا القسم (مز 1 – مز 41) هو تجميع لمزامير تتحدث عن حالة الإنسان: حياته المطوّبة وسقوطة ثم تجديده. وهو في هذا يماثل سفر التكوين:

1. تطويب الإنسان         [مز 1].

2. سقوطه من سموه       [مز 2-8].

3. عداوته لله               [مز 9-15].

4. تجديده بالله مخلصه     [مز 16-41].

في هذا القسم يظهر ربنا كراعٍ صالح يبذل نفسه من أجل خرافه مقدمًا صورة للكفارة (مز 22)؛ حافظًا إياها خلال رعايته السرائرية (مز 23 كمزمور الأسرار الإلهية خاصة المعمودية والميرون والأفخارستيا)، مكافئًا إياهم في مجده (مز 24).

ومما يلفت النظر أن أغلب مزامير هذا القسم تبدأ بالعنوان "Le David"، التي تعني "لداود" أو "الخاصة بداود".

بلا شك هذا التجميع هو أقدم مجموعة من المزامير، ربما ترجع إلى استخدامها الليتروجي (العبادة الجماعية) في الهيكل قبل السبي[53].

 

 

 

الباب الثاني

 

 

 

 

الكنيسة والخلاص

[مز 42 – مز 72]

 

 

الكنيسة والخلاص

[مز 42 – مز 72]

القسم الأول (مز 1 – مز 41) هو تجميع لمزامير تتحدث عن حالة الإنسان: حياته المطوّبة وسقوطه ثم تجديده بعمل الله مخلصه الذي يرد إليه الحياة الفردوسية المتهللة المفقودة. وهو في هذا يماثل سفر التكوين[54]. أما القسم الثاني (مز 42- مز 50) فيماثل سفر الخروج حيث ظهر شعب الله الذي يدخل في ميثاق معه خلال دم الحمل (خر 12)، لهذا جاءت مزامير هذا القسم تتحدث عن "الكنيسة والخلاص".

في الأصحاح الأول من سفر الخروج نرى الشعب مُستعبدًا في أرض غريبة، بعيدًا عن أرض الموعد. كان شعبًا متألمًا، يئن وينوح كلما هوى عليه سوط مُسخِره ومضطهِده. وكانت الضيقة تتزايد مع الزمن وتقسوا جدًا، وصارت الأبواب كأنها قد أُغلقت تمامًا، ولا يوجد منفذ للخلاص. لكن في الوقت المناسب سمع الله أنينهم وصراخهم، وقام يدافع عنهم بيده القوية، مخلصًا إياهم من بيت العبودية، بينما هلك أعداؤهم في البحر الأحمر.

يبدأ هذا القسم بصرخة مُرّة تصدر عن أعماق الضغطة (مز 42 – 49)، لينتهي بإعلان مُلك الله على شعبه المتعبد له حيث يُقال: "ويسود من البحر إلى البحر، ومن النهر إلى أقاصي المسكونة... ويسجد له جميع ملوك الأرض، وكل الأمم تتعبد له" (مز 72). يملك ملك الملوك على شعبه الذين صاروا ملوك الأرض، أي أصحاب سلطان على أجسادهم التي تتقدس فتُحسب أرض الرب. أما طريق المجد الملوكي فهو التوبة، لهذا يُقدم لنا هذا القسم الكثير من المزامير التي تتحدث عن التوبة والاعتراف، أبرزها مزمور التوبة الأمثل 51 (50 LXX) الذي نترنم به في مقدمة كل صلاة او تسبحة من صلوات السواعي (الأجبية)؛ كما يصلي به الكاهن مع الشعب في أغلب الصلوات الليتورجية (الجماعية).

يكشف هذا القسم عن جمال الكنيسة المتمتعة بالخلاص كعروس مزينة لعريسها الأبرع جمالاً من بني البشر (مز 45 "44").

وقد تجمعت مزامير هذا القسم من مصادر متنوعة:

1. أبناء قورح (مز 42، 44-49)، وهم عائلة من حارسي الأبواب الرسميين ومن الموسيقيين (1 أي 9: 17-19، 26: 19)، ربما كانوا تلاميذ قورح وليس بالضرورة من عائلته[55]. يرى البعض أن كلمة "قورح Core" ربما تعني "أقرع" أو "أصلع"[56].   إنها تعادل كلمة "Calvaria"[57] أي "الجمجمة" أو الموضع الذي صُلب فيه السيد المسيح. فأبناء قورح هم أبناء العريس المصلوب، القادرون أن يسحقوا رأس الحية القديمة بالصليب. ويحطمون الموت، وينعموا ببهجة القيامة. بمعنى آخر المسيحيون كأبناء قورح الحقيقي يمارسون الحياة المُقامة التي لا تعرف إلا الشكر والتسبيح لله مخلصهم.

2. آساف (مز 50) الذي أسس فرقة موسيقية أخرى للهيكل. ربما كان لقبًا لقادة الموسيقيين أو لمنظمي الخورس في أيام داود وسليمان (1 أي 16: 4، 5؛ 2 أي 5: 21)[58]. وكلمة "آساف" تعني "محصَّل" أو "يهوه يجمع"، ويرى   أنها تعني "المجمع". فإن كان المجمع اليهودي هو المسؤول عن صلب السيد المسيح، لكنه حفظ لنا النبوات التي تشهد للسيد المسيح الذي هو تسبيحنا وفرحنا.

3. داود النبي والملك (مز 51-65، 68-10)، رجل الصلاة والتسبيح؛ يمثل الكنيسة الملكة التي تجد كل لذتها في عريسها الملك، تلتصق به، وتسبحه بلا انقطاع.

4. سليمان (مز 72) يشير إلى الكنيسة الحاملة سلام الله الفائق.

5. توجد ثلاثة مزامير بدون أسماء (مز 66، 67، 71)، تمثل دعوة موجهة نحو كل نفس للتمتع بالعضوية الكنيسة المتهللة، حتى وإن لم يعرفها أحد من البشر بالاسم.

 

 

مقدمة في مزامير المصاعد

مزمور 120- مزمور 134

أصل مزامير المصاعد

قيل أن حزقيا الملك الذي شُفي في بهجته بعمل الله العجيب معه نظَّم عشرة مزامير ليقارنها بعشر درجات دوران الشمس، العلامة التي قدمها إشعياء النبي إليه بأن الرب يشفيه (2 مل 20: 8-10). أضيف إليها أربعة مزامير كتبها داود النبي ومزمور كتبه سليمان الحكيم، ليصير المجموع خمسة عشر مزموراً تقابل الخمس سنة التي أصنافها الرب لحياة حزقيا[59].

استخدامها

سُميت مزامير المصاعد أو المزامير الدرجية، لأنها كانت تنُشد بواسطة الكهنة عند صعودهم درجات الهيكل الخمس عشرة كل عام أثناء عيد المظال. وكان القادمون إلى أورشليم للاحتفال بالأعياد السنوية ينشدونها وهم في طريقهم صاعدين إلى الهيكل في أورشليم، خصوصًا القادمون من الشتات البعيدة.

المعنى الروحي

لهذه المزامير معنى عميق روحيًا، فهي تعني صعود قلب المؤمن في الإلهيات، حيث يقدم المؤمن تسبيحًا لله مُوحى به ويمارس حياة تعبدية. هذا ويرى كثير من الآباء أن هذه المزامير تشير إلى صعود القلب من مرحلة إلى أخرى، حتى يبلغ بيته الأبدي، الأحضان الإلهية، ليحيا في تسبيح دائم.

     تُعلمنا المزامير التي تُدعى "مزامير الصعود" كيف نصعد ونتقدم في سيرنا مع الله.

يدعونا المرتل بالروح القدس أن نصعد بالقلب، أي أن نزداد في الرغبة المقدسة الحقيقية، الأمر الذي هو أعظم من البحث عن "المشاعر الروحية".

نبدأ بالإيمان. ونؤمن في حقيقة عالم الله غير المنظور، وأسس ملكوته الثابت. هذا يلهب فينا رجاءً حيًا بأننا أبناء الملكوت. هذا بدوره يجعلنا نسكب حب الله على الغير. هذا يُزيد رغبتنا لخبرة حضور الله الأبدي الآن، كما في الحياة العتيدة، التي بلا نهاية. هذا هو ما يعنيه أننا نصعد.

أتحدث إليكم من هذا الكتاب (المزامير) لأنكم تفزعون عندما يُقرأ عليكم تحذير ورد في الإنجيل... إنكم تقرأون أن الرب يأتي مثل لصٍ في الليل. كما يقول يسوع في مثال: "إن كان رب البيت يعرف في أيَّة ساعة بالليل يأتي اللص، لسهر ولا يدع بيته يُنقب، هكذا أنتم أيضًا كونوا مستعدين" (مت ٢٤: ٤٣–٤٤).

في فزعكم وخوفكم تفكرون: "كيف يهيئ الإنسان نفسه إن كانت الساعة تأتي كلصٍ؟ هل هذا عدل؟

أبدأ فأقول لكم، هذا لأنكم لا تعرفون ساعة مجيئه، لذا تسعون في الإيمان على الدوام. ربما يخطط الله بهذه الطريقة، جاعلاً إيَّانا نجهل ساعة مجيئه حتى نتهيأ في كل لحظة لاستقباله. الطريقة التي بها يتطلع العبد إلى يد سيِّده.

ستكون هذه الساعة موضع دهشة للذين يحسبون أنفسهم "أرباب بيوتهم"، الأمر الذي به يعني الذين هم في كبرياء يدبرون أمورهم دون اختبار لإرادة سيِّدهم الحقيقي. لذلك لا تكن سيِّدًا بهذه الطريقة الباطلة، فلا تدهش ولا تفزع.

تسألني: فبماذا أتشبَّه إذن؟

أقول: تشبَّه بذاك الذي سمعت عنه من المرتل الصارخ: "فقير أنا وحزين" (مز ٦٣: ٣٠ Douay).

إن رأيت أنك دومًا فقير وحزين في الروح (مت ٥: ٣)، فإن عينيك تكون دومًا على الرب، وتنال رحمة من تعبك وراحة وقوة مستمرة[60].

  لا سبيل للنجاة بالرجوع إلى الوراء إلاَّ بالاجتهاد الدائم في الارتقاء والتقدم إلى الأمام. لأنه حينما نقف في جرينا نرتد إلى الوراء. فعدم التقدم يعني التقهقر. فإن أردنا ألاَّ نرجع إلى الوراء يلزمنا أن نسرع راكضين على الدوام بلا راحة.

     "مغبوط هو الإنسان الذي أعد ّمطالع في قلبه".

البار لا يوجد في قلبه إلاَّ مطالع ومصاعد. وأما الخاطئ فلا يوجد في قلبه إلاَّ انحدار وانخفاض.

فالبار يتجه نظره دائمًا إلى الأمور الأسمى ارتفاعًأ في الفضيلة. ولا يرغب سوى أن ينمو في الكمال غير مفتكر في شيءٍ آخر. وكما قال الحكيم: "أفكار المجتهد إنما هي للخصب" (أم 5:21).

·        إن الابتداء لا يعتبر في المسيحيَّة بل الانتهاء فقط. فقد ابتدأ بولس الرسول بداية رديئة وانتهى نهاية محمودة. ويهوذا بعكس ذلك ابتدأ حسنًا وانتهى بالشر، فما الذي ربحه من تلمذته للسيِّد المسيح والعجائب التي اِجترعها؟! ومَّا الذي تربحه أنت من ابتدائك بالصلاح إذا انتهيْت انتهاءً شقيًا. إن الأكاليل تعطى بحسب النهاية لا البداية كقوله: "من يصبر إلى المنتهى يخلُص" (مت ٢٤: ١٢).

فإن تلك السُلَّم التي رآها يعقوب لم يكن الرب جالسًا في أوِّلها أو في وسطها، بل كان واقفًا في آخرها (تك 28).

     "طوبى للجياع والعطاش إلى البرّ، لأنهم يشبعون" (مت 6:5).

الطوبى هي للذين لم يحسبوا أنفسهم كاملين بما فيه الكفاية، إنما لا يزالون مجتهدين في اكتساب كمال الفضيلة.

 القديس إيرونيموس

  كما أن الجنين في الرحم لا يبلغ إلى الرجولة في لحظة، بل تبدأ فيه الصورة والميلاد رويدًا رويدًا... وكما أن حبوب القمح والشعير لا تثمر حالما تُبذر في الأرض...

وكما أن الذي يزرع الشجرة لا يجني الثمرة في الحال، كذلك الأمور الروحية فيها حكمة ودقة عظيمة، فإن الإنسان ينمو درجة فدرجة ويعلو إلى قامة تامة (أف 13:4).

 

طبيعتها

 يرى Stuhlmueller أنه لا يمكن تصنيف هذه المزامير حسب محتوياها وأسلوبها، إذ تحوى صلوات شكر (مز 120،124)، وتسابيح اتكال على الله (مز 121، 125، 129، 131)، ومراثٍ (123، 126، 130)، ومزمور ملكي (132)، وترنيمة صهيون (122)، وتسابيح (مز 133، 134)، ومزامير حكمة (127، 128)، لهذا فإن أهم ما يميزها هي استخدامها الليتورجي عند مجيء الحجاج إلى ومن أورشليم للاحتفالات بالأعياد السيدية[61].

مزامير المصاعد وأسفار موسى الخمسة

يرى بعض الدارسين أن هذه المزامير قد صيغت في خمس مجموعات ، كل مجموعة تضم ثلاثة مزامير:

1. مزامير 120-122 تمثل فترة التكوين: فالإنسان الصالح يعاني من الضيق بسبب لسان الأشرار المخادع (120)، وهو في حاجة إلى اللوغوس، كلمة الله (121) ليعيده إلى الفرح السماوي (122). وفي سفر التكوين خُلق الإنسان على صورة الله، لكنه سقط بخداع الشيطان المخادع. فوهبه الله الوعد الأول بإصلاحه وتمتعه بالنصرة خلال نسل المرأة (تك3: 15)، وهو كلمة الله المتجسد الذي يجدد طبيعتنا ويرفعنا إلى السماء فنسترد حياة الفرح الحقيقي.

2. مزامير 123-125 تمثل فترة الخروج. فالله هو الملك الحقيقي الجالس على العرش في السماوات، له القدرة وحده على خلاص عبيده (123). يريد العدو أن يبتلع عبيد الرب وهم أحياء (124)، لكن الله يخلص المؤمنين به (125). وفي سفر الخروج يخلص الملك الحقيقي خاصته من فرعون الذي كان جيشه أشبه بسيلٍ جارفٍ لكنهم هم أُبتلعوا في البحر الأحمر، أما المؤمنون فخلصوا.

3. تمثل المزامير 126- 128 فترة اللاوين، إذ تكشف هذه المزامير عن عمل الله في المتعبدين الحقيقيين، حيث يتمتعون بالفرح العظيم (126)، وسكناه في وسطهم بكونهم مقدسه الخاص (127)، وتتحقق الوحدة القائمة على الإيمان (128). إنها تحقق ما ورد في سفر اللاويين كسفر العبادة والقداسة بالله القدوس.

4. تمثل المزامير 129-131 فترة العدد. فالكنيسة مُضطهدة منذ بدء نشأتها (129). ولا سبيل لخلاصها بطريق آخر غير التوبة (130)، والاتكال على الله باعتبارها ابنته الخاصة. وفي سفر العدد كان شعب الله يتألم منذ صباه، وفي حاجة إلى الإيمان والاتكال على الله وممارسة حياة التوبة.

5. تمثل المزامير 132-134 فترة التثنية. فهي تعلن عن نصرتنا بكلمة الله، وكأننا في موكب النصرة، نحمل تابوت العهد (132)، نتمتع بالوحدة الأخوية (133)، نسبح على الدوام بغير توقف (134). وهذه هي غاية سفر التثنية، لأن موسى قدم لهم ثلاث عظات يذكرهم بكلمة الله وعمل الله معهم عبر السنوات السابقة، ليعدهم كموكب منتصر، له القدرة بالله على دخول أرض الموعد تحت قيادة يشوع (رمز المسيح)، كمن يدخلون السماء عينها، غير أنه يلزمهم أن يتقدسوا بالرب ويسلكوا بروح الوحدة معًا في المسيح يسوع قائدهم السماوي، وقد تحرروا من العبودية لإبليس (فرعون).

 

يقدم لنا  جيروم ترتيبًا روحيًا لهذه المزامير:

1. يستهل المزامير الأول من مزامير المصاعد (120) بالكلمات "إلى الرب في ضيقي صرخت فاستجاب لي". وكان بدء الطريق نحو الأحضان الإلهية إدراك موقف الإنسان وشعوره بالحاجة إلى المخلص الإلهي.

2. وفي المزمور التالي يبدأ المرتل صعوده برفع عينيه إلى الجبال المقدسة، أي إلى كلمة الله التي ترافقه في الصعود.

3. وفي المزمور الثالث يفرح المؤمن بالوعود الإلهية المقدمة إليه، فيكون الفرح رفيقه كل الطريق.

4. وفي المزمور الرابع يرفع عينيه نحو الرب الساكن في السماوات، فيطلب ما هو فوق ويستخف بالزمنيات.

5. يتطلع جيروم إلى هذه المسيرة المفرحة أو الصعود الدائم بروح القداسة، سائلاً الاحتفاظ بالتواضع حتى لا يسقط من الدرجات فينهار. يقول: [تأملوا كيف صعد تدريجيًا درجة فأخرى في صعودٍ دائمٍ إلى ما هو أسمى... ويبلغ النبي المزمور الثالث عشر، بعد أن بلغ كل الفضائل في المزمور الثاني عشر، فيضع أمامه التواضع إذ تكون كل الفضائل باطلة ما لم تتوج بتواضع الرب. لأنه ماذا أعلنه المرتل: "يارب لم يرتفع قلبي، ولم تستعلِ عيناي" (مز 131: 1)[62].]

6. إذ يبلغ بالتواضع الشركة في سمات المسيح لعله يبلغ قياس قامة المسيح، وبعد أن قبل الإيمان بالسيد يجمع الكنيسة معاً (مز 133:1).

7. إذ تجتمع الكنيسة معًا كواحدٍ، وقد التأمت كنيسة المسيح ، فما هي مشورة المزمور الأخير؟ "ها باركوا الرب يا عبيد الرب". إنها دعوة للتسبيح الدائم للرب، مقدمة لعبيد الرب الذين هم ليسوا عبيدًا للخطية.

من أقوال الآباء عن مزامير المصاعد

    دعُيت هذه المزامير بأنأشيد المصاعد، لأننا فيها نرتفع صاعدين درجة فدرجة إلى الارتفاعات العلوية...

من كان في أدنى درجة يلزمه أن يثًّبت نظره إلى أعلى درجة، الخامسة عشر، ومن بلغ الدرجة الخامسة عشر فهو في ردهة الهيكل...

 اعتبروا لوهلةٍ أن هذا الهيكل الأرضي رمز للهيكل السماوي. "لأن نجمًا يمتاز عن نجم في المجد، هكذا أيضًا في قيامة الأموات" (1 كو 15: 41-42). طوبى لذاك الذي تأهل أن يبلغ الدرجة الخامسة في أورشليم السماوية، وفي الهيكل! لأن هذا الموضع غاية في السمو، كما اعتقد. وهو موضع الرسل والشهداء  . فلنصلِ أن نؤهل لنكون على الأقل عند أدنى درجة من درجات الهيكل، هيكل الرب. جميعهم يقفون على درجات مختلفة، لكنهم في المنزلة ينشدون مزمورًا واحدًا للحمد والشكر للرب. تختلف الأماكن لكن تسبيح الرب واحد...

 يليق بالإنسان في أدنى درجة ألا يفقد الشجاعة لبلوغ القمة، ولا الذي في أعلى القمة أن يشعر بالأمان والاكتفاء، لأنه يحتمل سقوطه فيهوى إلى القاع. أعتقد أن هذا هو معنى سُلم يعقوب حينما هرب من أمام عيسو أخيه[63].

 

  لا يتحقق هذا الصعود بقدمي الجسد بل بأحاسيس القلب. الدرجات كما هي مستخدمة في هذا المزمور هي درجات صعود... يوجد الذين يصعدون السلم ومن يهبطون منه (تك 28: 12). فمن هم الصاعدون؟ الذين يتقدمون نحو فهم الأمور الروحية. ومن هم الهابطون؟ الذين بالرغم من إدراكهم الروحانيات قدر استطاعتهم كبشرٍ، مع هذا يهبطون إلى مستوى الأطفال عند إخبارهم بمثل هذه الأمور قدر استيعابهم، حتى إذ يقتاتون باللبن قد يتهيأون ويصيرون أقوياء بقدر يسمح لهم بالتناول من الغذاء الروحي القوي.

 

 

 

 

مقدمة في سفر المزمير  

كلمات استرشادية، المزامير والكنيسة المتهللة، واضعوا السفر، لماذا ينسب سفر المزامير إلى داود؟، خصائص السفر، الأشكال الأدبية، 1. مزامير تعليمية، 2. مزامير التكريس (التقوى)، 3. مزامير التسبيح والشكر، 4. المزامير المسيانية، 5. المزامير التاريخية، 6. المزامير الليتروجية، 7. مزامير التجليس، 8. المزامير الملوكية، 9. مزامير المصاعد أو الدرجات، 10. مزامير هاليل، 11. مزامير المناسبات، 12. مزامير التضرعات أو المراثي، 13. المزامير الأبجدية، 14. مزامير التهليل لله، 15. مزامير الوهيم، 16. مزامير اللعنة، 17. مزامير صهيون (الكنيسة)، 18. مزامير الخليقة، أرقام المزامير، سفر المزامير والكتاب المقدس، سفر المزامير وأسفار موسى الخمسة، اصطلاحات تشير إلى طبيعة المزامير، عناوين ليتورجية، الإشارات الموسيقية، ملاحظات.

 

الباب الأول: الإنسان والخلاص (مز 1- مز 41)   

المزمور الأول:   الإنسان المطوّب

مزمور افتتاحي، المزامير الحكمية، الكلمة الاسترشادية (مفتاح المزمور)، الهيكل العام، 1. طريق الإنسان الورع، الشجرة المثمرة والعصافة، آدم الإنسان الطوباوي.

المزمور الثاني: عش ملكًا

عش ملكًا، المزامير الملوكية، الملك المسياني، مزمور تتويج، من هو هذا الملك؟، 1. مسيح الرب، 2. السماوي المتوّج، 3. الملك، 4. الابن الوحيد الجنس، 5. رئيس الكهنة الأعظم، 6. مخلص العالم، ثورة الشعب والملوك، الحاجة إلى التأديب، المسيح القائم من الأموات.

المزمور الثالث: الله مخلصي      

مركز المزمور في السفر، مرثاة شخصية،أقسامه، المسيح المُضطهد، الرب مخلصي، صوت القلب، المسيح القائم من الأموات، أسنان الخطاة، للرب الخلاص.

المزمور الرابع: الله بري 

العلاقة بين المزمورين الثالث والرابع، عنوان المزمور، الإطار العام، 1. الحياة البارة، 2. الحياة المتسعة، 3. الحياة المقدسة، 4. الحياة المضحيّة (ذبيحة)، 5. الحياة المفرحة في المسيح، 6. الحياة المستنيرة، 7. في وحدانية الفكر.

المزمور الخامس: ضد المسيح (المجدَّف ورجل الدماء)       

الإطار العام، عنوان المزمور، داود رمز الكنيسة الوارثة، اخيتوفل رمز لضد المسيح محطم الميراث.

المزمور السادس: أول مزامير التوبة       

إطاره العام، العنوان، صرخة إلى الطبيب الحقيقي، وادي ظل الموت، رفض شركة الأشرار، استجابة الصلاة.

المزمور السابع: انشودة القديس المُفترى عليه     

الإطار العام، عنوان المزمور، 1. اتكال وصلاة، 2. داود البريء، 3. قم يارب، 4. الحكم الانقضائي، نهاية الشر.

المزمور الثامن: سلطان ابن الإنسان        

مزمور مسياني، الإطار العام، العنوان، ما أعجب اسمك، كرامة الإنسان، وضعته قليلاً عن الملائكة، تمجيد اسم الرب.

المزمور التاسع: تسبحة الغلبة    

المزموران 9، 10، مناسبة المزمور، الشكل الأدبي، الكلمات والأفكار المحورية، الإطار العام للمزمور، العنوان، 1. تسبيح العلي، 2. الرب الدّيان، 3. الرب الملجأ، الرب المخلص.

المزمور العاشر: لا تنس المساكين يارب!  

إطاره العام، 1. يارب لا تقف بعيدًا، 2. الشرير وسماته، 3. لا تنس المساكين يارب.

المزمور الحادي عشر: الإيمان أعظم من الهروب   

تسبحة الواثق، الإطار العام، مشورة زائفة، العدو مستعد للعمل، نصيب الأشرار.

المزمور الثاني عشر: كلام الأشرار وكلام الأبرار وكلام الله   

بنية المزمور، العنوان، الحاجة إلى القديسين، أمان وسط الضيق.

المزمور الثالث عشر: إلى متى يارب...؟   

الإطار العام، 1. إلى متى يارب؟، 2. توسل، 3. أغنية.

المزمور الرابع عشر: الجاهل!     

كلمات ركيزية، الإطار العام، 1. فساد الأشرار، فساد جامع، الحاجة إلى تجديد طبيعتنا الفاسدة، 2. عداوة الأشرار ضد الأبرار، 3. المخلص والمحرر والمفرح.

المزمور الخامس عشر: الحياة على القمم الجبال    

المزمور الرابع عشر، الإطار العام، 1. ضيف الله، سمات ضيف الله.

المزمور السادس عشر:   الله كفايتي وفرحي

أقسامه، مزمور مسياني، قيامة المسيح، بركات الله.

المزمور السابع عشر: التأديب يقود إلى رؤية الله   

مزمور مسياني، العنوان، الإطار العام، 1. اللجوء إلى الله لتأكيد براءته، 2. طلبة من أجل الرحمة، 3. توسل ضد الأشرار، 4. تمجيد الله.

المزمور الثامن عشر: نعمة الملوكية       

مزمور مسياني ملوكي، عنوان المزمور، الإطار العام، الكلمة الاسترشادية، الجزء الأول: الخلاص، 1. خلاص من براثن الموت. 2. قوة القيامة، 3. عطية المجد، الجزء الثاني: نعمة الملوكية، 1. الاعداد لنعمة الملوكية، 2. استسلام الأعداء، رئاسة على الأمم، 4. حمد وشكر.

المزمور التاسع عشر: الله يعلن عن ذاته

مناسبة كتابته، الإطار العام، 1. اعلان الله في الخليقة، 2. شهادة الكتاب المقدس، المسيح كلمة الله، 3. اعلان الله في خبرتنا اليومية.

المزمور العشرون: الله يخلص الملك        

مناسبة المزمور، هيكل المزمور، الإطار العام، 1. صلاة نبوية عن المسيح، 2. اشتياق قلب المسيح، 3. نمو ملكوت المسيح.

المزمور الحادي والعشرون: نشيد نصرة الملك      

مزمور ملوكي، مزمور مسياني، الكلمة الاسترشادية، الإطار العام، 1. نصرات المسيح الملك الماضية، 2. نصرات المسيح المقبلة، تسبيح وحمد الشعب.

المزمور الثاني والعشرون: آلام المسيح المجيدة    

من الآلام إلى الأمجاد، مزمور مسياني، العنوان، أقسام المزمور، 1. المسيح المتألم، 2. المسيح الممجد.

المزمور الثالث والعشرون: مزمور الراعي أو البارقليط      

تسبحة ثقة، مزمور ملوكي ليتروجي، ارتباط بالمزمور السابق، مزمور سرائري، الخطوط العريضة للمزمور، 1. راعي. 2. قائدي في سبل البر. 3. صديقي ومضيفي، ماذا يُقدم لنا الراعي؟

المزمور الرابع والعشرون: ملك المجد يدخل مقدسه

مناسبة المزمور، علاقته بالمزمورين السابقين، التفسير المسياني، الهيكل العام للمزمور، 1. في الموكب، 2. حوار بين قائد المجموعة وحارس الباب، 3. تسبيح الجوقات قبل دخولهم في الهيكل، عنوان المزمور، أقسامه، 1. خالق الكل، 2. الكلي القداسة، 3. كلي النصرة، من هو هذا ملك المجد.

المزمور الخامس والعشرون: الرب معلمنا  

المسيح المعلم، الكلمات الاسترشادية، أقسامه، 1. الصلاة والاتكال على الله، 2. الرب مخلصي ومعلمي.

المزمور السادس والعشرون: السلوك بالاستقامة    

مناسبة المزمور، مزمور مسياني، أقسام المزمور، 1. دفاعه عن كماله، 2. دفاعه عن تركه الشعب وبيت الرب، 3. طلب الخلاص والرحمة.

المزمور السابع والعشرون: الثقة في الرب 

وحدة المزمور، مناسبته، العنوان، أقسامه، 1. ثقة في الرب، 2. حصانة في كنيسة المسيح، 3. صلاة برجاء، 4. نصح وإرشاد.

المزمور الثامن والعشرون: مسيحنا قي الجب       

مزمور مسياني، الإطار العام، 1. ابتهال. 2. تضرع وثقة، 3. شكر وتسبيح. 4. تشفع وحب.

المزمور التاسع والعشرون: عاصفة رعدية أو صوت الرب   

المناسبة، صوت الرب فعال، علاقته بالمزمور السابق، الإطار العام، 1. دعوة إلى العبادة، 2. العاصفة وصلاح الله، 3. سيادة الله على العالم، 4. نعم الله على كنيسته.

المزمور الثلاثون: شكر للخلاص من الموت ولتدشين بيت داود       

العنوان، الإطار العام، 1. التسبيح لأجل الخفاء، 2. دعوة للتذكر، 3. تطلع إلى الخبرة الماضية، 4. تجديد التسبيح.

المزمور الحادي والثلاثون: في يدك استودع روحي 

مناسبته، العنوان، الإطار العام، الله ملجأي، طلب الخلاص، الحياة الغالبة الآلام، تسبحة ليتروجية تعليمية.

المزمور الثاني والثلاثون: الفرح بالغفران 

مزمور الصراحة والاعتراف بالخطية، هيكل المزمور، العنوان، الإطار العام، الغفران الإلهي، الحماية الإلهية، الارشاد الإلهي، الفرح الإلهي.

المزمور الثالث والثلاثون: ترنيمة نصرة وفرح

ارتباطه بالمزمور السابق، مزمور تسبيحي حكمي ليتروجي، كلمة الله في العهد القديم، البنية الليتورجية، الإطار العام، دعوة للتسبيح أمام الله، معاملات الله مع الأمم، صلاح الله.

المزمور الرابع والثلاثون: شكر من أجل النجاة      

الإطار العام، تسبيح الله، أسباب التسبيح، هُلم أيها الأبناء واسمعوني، الأمان الإلهي.

المزمور الخامس والثلاثون: صرخة طلبًا للعون     

الإطار العام، توسل لله البار، وصف الآلام، تدخل الله.

المزمور السادس والثلاثون: شر الإنسان وصلاح الله         

العنوان، الإطار العام، سمات الشرير، ميثاق الله، سقوط الشرير تحت العنة.

المزمور السابع والثلاثون: الودعاء يرثون أرض السلام     

الإطار العام، بركة الإيمان، مقارنة بين الأبرار والأشرار، نهاية الأبرار والأشرار.

المزمور الثامن والثلاثون: مزمور التوبة الثالث

العنوان، الإطار العام، التوب والاعتراف، مرض خطير، الرجوع إلى الله، الثقة في مواجهة الأعداء.

المزمور التاسع والثلاثون: تخطي الأحداث والزمن  

العنوان، الإطار العام، ضعف الإنسان وزواله، أولاً: الصمت الحكيم، ثانيًا: زوال البشرية؛ الصلاة ومحاسبة النفس، أولاً: صلاة من أجل النجاة، ثانيًا توسل لأجل استجابة الصلاة.

المزمور الأربعون: جئت لأتمم مشيئتك     

الإطار العام، 1. تسبحة نصرة المسيح، 2. العبد المطيع وذبيحته. 3. أعداؤه وقديسوه.

المزمور الحادي والأربعون: الإنسان المطوّب        

بين المزمورين الأول والحادي والأربعين، العنوان، الإطار العام، 1. بخصوص المسكين، 2. المسكين المرفوض، 3. نصرة قيامته.

الباب الثاني: الكنيسة والخلاص (مز 42- مز 72)

(مز 42- مز 72) الكنيسة والخلاص

المزمور الثاني والأربعون: عطشى إلى المسيح      

المزموران 42، 43، العنوان، الإطار العام، صرخة واشتياق إلى الله، ضيقة وحيرة، دموعي صارت لي خبزًا!

المزمور الثالث والأربعون: أحكم لي يارب  

العنوان، الإطار العام، أحكم لي يارب، التمتع ببيت الخلاص، الله مخلص وجهي، في بيت الخلاص!

المزمور الرابع والأربعون: حُسبنا مثل غنم للذبح   

المناسبة، الإطار العام، معاملات الله في الماضي، قرن خلاص دائم، امتحان الإيمان الحاضر، كلمات عتاب، صرخة من أجل الخلاص، من أجلك نُمات كل النهار.

المزمور الخامس والأربعون: تسبحة العروس للمسيا الملك المحارب  

مزمور ملكيي مسياني، المسيا الملك، المزمور 45 في الطقس القبطي، الإطار العام، العنوان، فاض قلبي...، قلم كاتب ماهر، مجد الملك، ملك محارب، اعلان ملكوته، الملك العروس، مجد العروس، لتسبحك نفسي أيها العريس الأبدي.

المزمور السادس والأربعون: رب القوات معنا       

الإطار العام، القرار، العنوان، رب القوات واهب القوة، رب القوات واهب البهجة، رب القوات واهب النصرة، رب الجنود ناصرنا!

المزمور السابع والأربعون: مَلِكْ الجميع    

مزمور مسياني ملوكي، مناهج تفسير المزمور، الإطار العام، العنوان، التنبوء بمُلك الجامع، العبادة العامة لله الملك، مجد الله الملك، لتملك... ولتتمجد!

المزمور الثامن والأربعون: مدينة الملك العظيم      

مزمور صهيون (الكنيسة)، مناسبته، الهيكل العام، العنوان، مدينة الملك العظيم، المدينة التى لا تُقهر، مدينة متعبدة متهللة، مدينة شاهدة لإلهها، مدينة رب القوات.

المزمور التاسع والأربعون: قصور الغني   

مزمور حكمي، مناسبته، الإطار العام، العنوان، دعوة للاستماع، قصور الغنى والكرامة، بركات البرّ، نصيحة وتحذير، أنت غناي!

المزمور الخمسون: ذبيحة التسبيح

آساف، مزمور نبوي ليتروجي، الإطار العام، ثيؤفانيا (الإطار العام)، إدانة الشكليين في العبادة، إدانة الأشرار المرائين، تحذير، العبادة بالروح والحق.

 

اَلْمَزْمُورُ الْحَادِي وَالْخَمْسُونَ: التوبة الحقيقية

سماته، العنوان، 1. دعوة استهلالية للتطهير، 2. اعتراف بالإثم، 3. بهجة بالغفران، 4. تجديد مستمر، 5. شهادة أمام الخطاة، 6. تقديم ذبيحة تسبيح وشكر، 7. تمتع بحياة كنيسة روحية.

اَلْمَزْمُورُ الثَّانِي وَالْخَمْسُونَ: مصير الكَذَبة وعابدي الوحش

مناسبته، العنوان، 1. الإنسان الشرير، 2. مصير الكذبة الأشرار، 3. خلاص الله، 4. التسبيح لله.

اَلْمَزْمُورُ الثَّالِثُ وَالْخَمْسُونَ: عدم الإيمان يقود إلى اللاأخلاقيات

بين المزمورين 14 و53، لماذا التكرار؟، العنوان، 1. بين عدم الإيمان واللاأخلاقيات، 2. فساد جماعي، 3. يأكلون شعب الله كالخبز، 4. تهليل الكنيسة بالحرية الروحية.

المزمور الرابع والخمسون: الخلاص الأكيد

مرثاة شخصية، العنوان، 1. الخلاص في اسم الله، 2. الله معين لي، 3. ذبيحة الشكر.

اَلْمَزْمُورُ الْخَامِسُ وَالْخَمْسُونَ: يا ليت لي جناحي حمامة!

مرثاة أم تسبحة؟!، داود أم إرميا؟!، العنوان، 1. صرخة من أجل الضيق، 2. يا ليت لي جناحي حمامة، 3. فرق ألسنتهم، 4. أعداء الإنسان أهل بيته، 5. استجابة الله وصوت المخادع، 6. الاتكال على الله.

اَلْمَزْمُورُ السَّادِسُ وَالْخَمْسُونَ: تسبحة شكر شعبيه

مناسبته، العنوان، 1. التسبيح لله في بيت الرب، 2. التسبيح لله وسط الكون، 3. التسبيح لله على عطاياه.

اَلْمَزْمُورُ السَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ: في وسط الأشبال أو فرح المرتل بالمسيا حصنه ومخلصه

مناسبته، مزمور مسياني، العنوان

 

119

 

* غنى كلمة الله ولذتها

مزمور كلمة الله، تسبحة التسابيح!، سمات هذا المزمور، واضع المزمور، الكلمات الإرشادية (مفتاح السفر)، المزمور 119(118) وبلوغ الكمال، مركز التوراة عند اليهود، سمات كلمة الله، الإطار العام.

1. أ: تطويب الطاعة بقلبٍ غير منقسمٍ

الطاعة بالمسيح طريقنا الملوكي، طاعة سلوك عملي، طاعة بالدراسة والفحص، طاعة بكل القلب،  طاعة المثابرة، طاعة لكل الوصايا، طاعة بفرح، طاعة وسط الآلام.

2. ب: الوصية كنز مخفي

 بماذا يقوم الشاب طريقه؟، الوصية تقدس قلب الشاب، الوصية وحياة التسبيح، الوصية وشهادة الشاب لها، الوصية غنى الشاب، الوصية وحياة الهذيذ.

3. ج: الوصية ... عزاء في الغربة

الوصية حياة، الوصية استنارة، الوصية رفيق في الغربة، الوصية والغلبة على الأشرار، الوصية ترفع عنا العار، الوصية ومؤامرات الأشرار، الوصية واللذة الروحية.

4. د: أحيني ككلمتك

الوصية والحياة المُقامة، الوصية والاعتراف المفرح، الوصية والتحرر من الحزن القاتل، الوصية والتحرر من روح الكذب، الوصية والقلب المتسع.

5. هـ: اهدني في سبيل وصاياك

الرب واضع الناموس، الرب واهب الفهم، الرب هادي النفس، يخرجها من طريق الظلم، ينير العينين بالأبديات، يهبها المخافة الإلهية، ينزع عنها عار الخطية، يهبها عذوبة الروح.

6. و: الشهادة لكلمة الله

الخلاص والشهادة، الشهادة والمعيّرون، الشهادة والثبات في الحق، الشهادة وحفظ الوصية، الشهادة والحب، الشهادة والشجاعة، الشهادة والصداقة مع الوصية.

7. ز: كلامك عزَّاني في مذلتي

عزاء وسط الموت، عزاء وسط الشدائد، عزاء في الخدمة، عزاء في العبادة الخاصة.

8. ح: نصيبي أنت يا رب

بالوصية نتقبل الله نصيبنا، بالوصية نعاين عريسنا السماوي، بالوصية نسلك طريق العريس، بالوصية نتهيأ للعُرس، بالوصية تُمارس حياة العُرس المفرحة، بالوصية نمارس حياة العرس الجماعية، بالوصية ننتظر يوم العريس الديان.

9. ط: خير لي أنك أذللتني

غاية لطف الله، التأديب الإلهي وحفظ الوصية، التأديب والشكر، بين تأديبات الله وظلم المتكبرين.

10. ي: أحكامك عادلة

إني خليقتك موضع حبك، إني مثال عملي يجيب على التساؤلات، لقد وهبتني عدالة أحكامك، برحمتك تعزيني، برأفتك تهبني الحياة، حطمت افتراءات المتكبرين، ليجتمع بي خائفوك.    

11. ك: رجاء وسط الظلمة

صرت كزقٍ في جليد، هذيان الأشرار وحق الوصية، كرحمتك أحيني.

12. ل: كلمتك دائمة في السموات

كلمة الرب ثابتة سماوية، كلمة الرب تناسب كل الأجيال، كلمة الرب تناسب كل بشرٍ، كلمة الرب تناسبني شخصيًا.

13. م: كلماتك حلوة في حلقـــي

الوصية العذبة وأيضًا تلاوة اسم الله، الوصية العذبة والحكمة الأبدية، الوصية العذبة والجهاد، يا لعذوبة الوصيــة!، عذوبة الوصية وكراهية الظلم.

14. ن: مصباح لرجلي كلامك

الوصية نور حقيقي، الوصية دخول في عهد، الوصية واهبة الحياة، الوصية واهبة القوة، الوصية والتسليم، الوصية تكشف الفخاخ، الوصية واهبة البهجة، الوصية والتمتع بالإكليل الأبدي.

15. س: عضِّدني حسب قولك

عون ضد مقاومي الوصية، عون لحياته الداخلية، عون لاحتمال الظلم، حاجته إلى مخافة الرب.

16. ع: لا تسلمني إلى الذين يظلمونني

استنجاده من الظالمين، استنجاده من المتكبرين، استنجاده بخلاص الله، استنجاده بالوصية الإلهية.

17. ف:عجيبة هي شهاداتــك

عجيبة هي شهاداتك!، استنارة وبساطة!، عطية الروح!، شهادات الرب تشعل الحب لله!، تقوّم الخطوات!، تحفظ من الافتراءات!، تهبني معاينة وجهك!   

 18. ص: عادلة هي شهاداتك إلى الأبد

          عادل أنت يا رب.، غيرة المرتل على عدالة الله.

19. ق: قريب أنت يا رب

صرخات قلبيــة، صرخات عاجـــلة، اقتراب الأشرار واقتراب الرب.

20. ر: بعيد هو الخلاص عن الخطاة

بالاتضاع ننعم بخلاصه، بعيد الخلاص عن الخطاة، قبولي رأفاتك ورفضهم لها.

21. ش: سلام عظيم للذين يحبون اسمك

اضطهاده بلا سبب، بهجته بالغنائم، حالة فرح وتسبيح دائم، تمتعه بالسلام.       

22. ت: علمني، أعني، ابحث عني!

الدنو من الرب معلمه، فرح المرتل بمعلمه الإلهي، الرب هو المخلص، الرب هو المعين، الرب المبادر بالحب.